بدأت الأسواق العقارية في تركيا بشكل عام تستعيد أنفاسها على غرار الكثير من الدول الأوروبية والآسيوية وغيرها نهاية العام الماضي (2009)، بعد عامين من الركود والتراجعات التي أدت إليها الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة حول العالم. ويسهم هذا التعافي في الأسواق التركية في التعافي العقاري العالمي الذي يطال الكثير من الدول.
وحسب مؤسسة «كوليارز» الدولية، فإن الأسواق العقارية التجارية أيضا في تركيا بدأت تلحق بمثيلاتها السكنية وتشهد تعافيا على الكثير من الصعد، واستعادة نموها السريع الذي عرفته قبل الركود العالمي، وذلك على خلفية عودة العمل بالكثير من المشاريع التي تم تأجيلها وتجميدها خلال الأزمة الاقتصادية منذ عام 2007.
لكن الأسواق التجارية رغم تحسنها تبقى بشكل عام لصالح المستأجر ولصالح المشتري، ولا تزال أسعار الأراضي الخاصة بالاستصلاح التجاري وبناء المشاريع الكبيرة غالية الثمن، نسبة إلى الدول المجاورة والأسواق العالمية والأوروبية الأخرى. وهذا يضع ضغوطا كبيرة على المطورين وحجم المشاريع وطبيعتها في سوق تنافسية للغاية.
ويتوقع أن تتزايد مساحة المكاتب التجارية الممتازة من الدرجة الأولى وتتضاعف خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو ما من شأنه رفع حدة المنافسة لاستقطاب المستأجرين.
وتشير أرقام «كوليارز» بهذا الشأن إلى أن معظم الصفقات الخاصة بالمكاتب الجديدة والممتازة وخصوصا قطاع الإيجار في اسطنبول، تحصل في القسم الآسيوي من المدينة، لأن هناك خيارات أكثر ومساحات أكبر من المكاتب وبأسعار تنافسية وأرخص من القسم الأوروبي. كما أن الكثير من موظفي المدينة والشركات المهمة يعيشون في القسم الآسيوي، وتحاول الشركات المحلية والدولية في المدينة في معظمها تحاشي زحمة جسر البوسفور. ومع هذا شهدت المنطقة الآسيوية تراجعا في عدد العقارات التجارية المتوافرة في الأسواق، على عكس القسم الأوروبي الذي لم يشهد تغييرا يذكر على هذا الصعيد بداية عام 2010. لكن هذا القسم لا يزال يحتفظ بأهم المكاتب الممتازة في اسطنبول بشكل عام، رغم التحول الأخير باتجاه الشرق. وأدى تراجع عدد العقارات المتوافرة في القسم الآسيوي إلى ارتفاع معدلات الإيجار بعض الشيء.
ويتوقع أن تزداد مساحة المكاتب الممتازة من الدرجة الأولى في اسطنبول هذا العام بـ200 ألف متر مربع، جزء كبير منها سيكون هذه المرة في القسم الآسيوي. ولهذا يمكن أن تتراجع معدلات الإيجار مرة أخرى في هذا القسم. وحاليا، لا تزال معدلات الإيجار في القسم الأوروبي مستقرة وعلى حالها، لكن رحيل الكثير من الشركات من القسم الأوروبي إلى القسم الآسيوي هذا العام والأعوام المقبلة سيؤدي إلى ارتفاع عدد العقارات التجارية الشاغرة والمتوافرة في الأسواق، وهو ما من شأنه أيضا أن يؤدي إلى تراجع معدلات الإيجار. وقد سجلت العام الماضي (2009) أكبر نسبة من عمليات انتقال الشركات من شمال المدينة إلى جنوبها. ولذا إذا تمكنت المدينة من استيعاب معظم المكاتب الممتازة الجديدة وتصريفها وتأجيرها، فإنه يتوقع أن تستعيد معدلات الإيجار نموها ابتداء من العام المقبل (2011) وما بعده، وفي حال شكلت هذه المكاتب فائضا في الأسواق لتفضيل الشركات خيارات أخرى عليها، ستواصل عائدات الإيجار تراجعاتها خلال السنوات القليلة القادمة كما يبدو.
وفي التقرير الخاص الذي نشرته «كوليارز» عن أداء القطاعين العقاري والاقتصادي بشكل عام في تركيا في النصف الثاني من العام الماضي، أي من يوليو (تموز) إلى نهاية ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، جاء أن تركيا كبقية دول العالم تتوقع انعكاسات إيجابية على الصعيد الاقتصادي نتيجة ما يحصل على الساحة الدولية، إذ إن هناك بوادر للتعافي كالكثير من دول العالم نتيجة ارتفاع حجم الاستهلاك وتدني معدلات الفائدة بشكل عام، لدرجة أن خفضت بعض البنوك فوائدها إلى أقل من واحد في المائة على بعض القروض العقارية. أضف إلى ذلك أن هناك توقعات بارتفاع وتيرة العمل في قطاع الإنشاءات والبناء، وهو ما من شأنه أيضا أن يعزز الكثير من القطاعات الأخرى التي تضررت من الركود العالمي وعلى رأسها القطاع العقاري بالطبع. وبالطبع أيضا يعتمد أداء الاقتصاد التركي على أداء الاقتصاد العالمي بشكل مباشر وغير مباشر، وأداء الاقتصاد العالمي يعتمد على مواصلة الدول وخصوصا الدول الكبرى وضع التحفيزات الاقتصادية والمالية لتعزيز النمو المستعاد لاقتصادها. وفي حال توقفت هذه الدول عن مواصلة التحفيزات هذا العام ووقفها هناك مخاطر من أن يعود الركود إلى سابق عهده، ما يهدد التعافي الحاصل حاليا. ولذا يتوقع بعض الخبراء أن تلجأ تركيا إلى وضع حزمة جديدة من التحفيزات الاقتصادية والتعاون مع البنك الدولي لتعزيز الثقة باقتصادها واستقراره.
أما حول الأسواق الاستثمارية العقارية، فتشير المعلومات المتوافرة إلى أن عدد الاستثمارات والصفقات العقارية السكنية عاد إلى سابق عهده، بعد ركود كبير منذ منتصف عام 2008 حتى الربع الأخير من العام الماضي تقريبا. لكن الأسواق بشكل عام تحاول منذ بداية العام الماضي تثبيت الأسعار ورفع حجم الطالب على العقارات كما فعلت الكثير من دول العالم خلال الفترة الماضية.
ويبدو أن أسعار الفائدة المتدنية تسهم في إشعال وتعافي أسواق العقار من ناحيتين، ارتفاع عدد الصفقات وارتفاع عدد الباحثين عن استثمارات عقارية أكثر استقرارا وللمدى البعيد. لكن فيما تبقى الفجوة كبيرة بين الأسعار التي يتوقعها المشترون والبائعون على حد سواء، لا تزال معظم الصفقات العقارية الجديدة والمهمة في إطار العقارات التي لا يتعدى سعرها العشرين مليون دولار أو يورو، أي أن العقارات والصفقات الكبيرة لا تزال محدودة ولأسباب كثيرة على رأسها قلة المساحات والعقارات السكنية الممتازة المتوافرة في الأسواق وأسعارها الخيالية.
وتقول «كوليارز» إن معدلات الإيجار في قطاع المحلات التجارية تراجعت بنسبة 50 في المائة في النصف الثاني من العام الماضي بسبب كثرة العرض وكثرة المراكز التجارية في المدن الكبيرة وتراجع الطلب عليها في المدن الصغيرة والفرعية. ولا يتوقع أن يستعيد هذا القطاع عافيته قبل ارتفاع الوتيرة الاستهلاكية من جديد في البلاد.
وكما سبق وذكرنا في البداية، فإن معدلات إيجار المكاتب التجارية الممتازة ومن الدرجة الأولى في تركيا بشكل عام في النصف من العام الماضي، تراجعت قليلا لكن ليس بدرجة مقلقة، نتيجة النقص في عدد المكاتب الممتازة المتوافرة في الأسواق. ورغم أن بعض مناطق اسطنبول شهدت تراجعا على معجلات الإيجار بنسبة 20 في المائة فإن ذلك كان محدودا ومحصورا. وتوقع «كوليارز» أن يشهد القطاع في هذا الإطار تعافيان وأن تستقر الأسعار هذا العام والعام المقبل بشكل تدريجي.
أما في القطاع السكني، فإن السنوات الأخيرة قد خلطت الأمور، إذ ارتفع عدد المشترين للعقارات السكنية (في المدن الرئيسية) لغايات تجارية واستثمارية وليس لغاية السكن، مما أسهم إلى جانب ندرة القروض العقارية المتوافرة في الأسواق خلال الفترة الماضية، في تراجع أسعار العقارات السكنية في بعض المناطق بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المائة في النصف الثاني من العام الماضي، رغم أن تركيا تحتاج سنويا إلى نصف مليون عقار أو بيت جديد لتلبية احتياجاتها ونموها على هذا الصعيد. ومع هذا لا تزال التوقعات تشير إلى حصول تعاف في هذا القطاع أيضا واستقرار الأسعار باتجاه العام المقبل.
وتشير الأرقام الخاصة بالقطاع العقاري السكني في اسطنبول إلى أن النصف الأول من العام الماضي شهد أكبر تراجع على الطلب على العقارات السكنية والتجارية في البلاد، وفيما اتخذ المستثمرون المحليون سياسية الترقب والانتظار، أوقفت الكثير من الشركات الأجنبية نشاطاتها وتوقفت عن الشراء عبر صناديقها التحوطية ومحافظها المالية المختلفة. وفيما ألغيت الكثير من المشاريع تم تأجيل بعضها إلى العام الحالي. وتراجع أيضا خلال تلك الفترة الطلب على القروض العقارية بنسبة لا تقل عن ثلاثين في المائة مقارنة بما كانت عليه في النصف الأول من عام 2008. ولم يسجل أي ارتفاع على الطلب إلا في بداية النصف الثاني من العام الماضي، مدفوعا بتخفيض البنوك معدلات الفائدة من 1.49 إلى 1.2 في المائة في بعض الحالات. وهذا معطوف بالطبع على تخفيض البنك المركزي أيضا لمعدلات الفائدة على القروض العقارية وبمعدلات تاريخية كما هو حال معظم دول العالم، وإلى أقل من 1 في المائة وأحيانا 0.59 في المائة. ولا شك أن معدلات الفائدة المنخفضة لا تضمن ارتفاعا متواصلا على الطلب على القروض العقارية على المدى البعيد، لأن هذه القروض قصيرة الأمد، لكن ومع هذا، يظل هناك طلب قوي على العقارات السكنية الممتازة في المدينة، وهناك ثقة كبيرة في الكثير من المناطق مثل بومونتي الموصولة بغيرها من المناطق. وتوقع «كوليارز» أن يرتفع الطلب على القروض العقارية والعقارات في النهاية في مناطق كثيرة، منها ريفا وساريار وغيرهما، بسبب بناء الحكومة جسرا ثالثا وجديدا على البوسفور. ومع هذا لا يتوقع أن ترتفع الأسعار في هذه المناطق، بل يتوقع أن تزداد حصة الشركات العقارية المسجلة في البورصة بنسبة أعلى من النسبة التي سجلتها منذ مارس (آذار) 2009 ووصلت إلى 300 في المائة.
وفي إطار الإصلاحات في القطاع العقاري وتحديث القوانين وتطبيقها لتتماشى مع مثيلاتها الأوروبية والدولية، ذكرت تقارير مؤخرا أن الكثير من الحكومات والمجالس المحلية بدأت في تدمير العقارات والمحلات التجارية المبنية بشكل غير قانوني على أراضي الغير. ويقال إن مجلس ديدما وضع خطة لتدمير سبعمائة عقار غير شرعي أو مخالف لقوانين البناء، وقد بدأ العمل على تنفيذ ذلك بداية العام الحالي. وتنوي ديدما تشديد قوانينها الخاصة بالعقارات وتمليكها لتحسين وضع البلدة. ومن العقارات التي تنوي تدميرها الكثير من المقاهي والحدائق والفنادق وبرك السباحة، والكثير من هذه العقارات المملوكة للأجانب. يذكر أن تركيا شهدت عدة طفرات عقارية منذ بداية تراجع التضخم الاقتصادي وبدرجات مهمة في البلاد قبل سنوات، وبشكل خاص غيرت قوانينها وسمحت بتمليك العقارات التركية للأجانب لفتح الأسواق وتطويرها أمام المستثمرين، وتحسين سمعتها الدولية عام 2003. إذ بعد ذلك العام شهدت تركيا هجمة من المواطنين الأوروبيين خصوصا البريطانيين لاقتناص العقارات القديمة والمهمة والرخيصة. وركز البريطانيون منذ ذلك الحين على المدن الرئيسية، خصوصا اسطنبول والمناطق الساحلية الأناضولية الجنوبية القريبة من سورية وقبرص وبودروم. ويتوقع أن تتضاعف قيمة معظم العقارات التي تم شراؤها خلال السنوات القليلة الماضية إذ ما نجحت تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بشكل أو بآخر. وتتزايد نسبة الملكية الأجنبية منذ ست سنوات مع تزايد وتيرة السياح الراغبين في زيارة آسيا الصغرى التي باتت من الدول الصناعية المهمة في منطقة الشرق الأوسط.