تعد العائلات في البصرة التي يعمل أحد أفرادها في مطابخ المستشفيات والمطاعم أكثر أمنا من حيث غذائها اليومي بين العائلات الفقيرة التي تشكل غالبية سكان المحافظة المعروفة بإنتاجها النفطي الوفير.
وما يميز تلك العائلات عدم مبالاتها بتأخر توزيع المواد الغذائية المصروفة بموجب البطاقة التموينية أو النقص في مفرداتها كغيرهم من الأهالي، وينحصر جل اهتمامها بالقدر اليومي القادم في المساء، والحاوي للمواد الغذائية الفائضة عن حاجة المرضى الراقدين في المستشفيات والأطعمة الزائدة عن موائد المطاعم الخاصة والشركات. وقال أبو أيمن، وهو رجل ستيني مقعد على درجة عالية من سعة الاطلاع والثقافة لا هم له غير القراءة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «منذ ما يقرب من ربع قرن ننتظر في المساء قدوم الزوجة التي تعمل بصفة طباخ بأحد المستشفيات العامة حاملة قدور الطعام من فائض طعام المرضى والأطباء المقيمين، الذي يعد مصدر قوتنا الرئيسي كل يوم». وأضاف «كان الناس يتحدثون عند انهيار النظام السابق وقدوم أحزاب المعارضة أن تجعل لأهالي المدينة حصة في ثرواتها تنتشلهم من الفقر الوراثي المزمن، لكنهم لم يمنحوا الأهالي سوى حصص مضافة من شح المياه وتلوث البيئة»، مشيرا إلى أنه لم ير اختلافا كبيرا عن سنوات الحصار، إذ بقيت وجوه عامة الناس على حالها شاحبة بلا لون يدل على النظارة.
وأكدت الزوجة أن «بعض المرضى الراقدين في المستشفى لا يتناولون الأطعمة المقدمة لهم من الإدارة والتي يشرف عليها أطباء اختصاص، ويعتمدون على الأغذية التي يجلبها لهم ذووهم من مساكنهم، والبعض الآخر يتناول قسما منها وحسب وصايا الطبيب»، مشيرة إلى أن «الكثير من الأغذية الفائضة تقسم بين العاملات في المطبخ لجلبها إلى عوائلهن كونها نظيفة ومتنوعة حسب جدول غذائي». وقالت «تمكنت من خلال توفير تلك الأطعمة مضافا إليها راتبي وما نحصل عليه من بيع حصة الكمية، من إعالة عائلتي وتربية بناتي وإدخالهن إلى الجامعة». ويرى علاء مهدي (صاحب مطعم) أن «بعضا من عمال المطعم خاصة ممن لديهم عائلات كبيرة، يعزلون الطعام النظيف الباقي عن موائد الزبائن في قدورهم الخاصة داخل المطبخ، وعند إنهاء عملهم يحملونها إلى عائلاتهم»، مشددا على أن «بعض العاملين يأنفون من ذلك ويكتفون بأخذ الأطعمة الفائضة عن الولائم والدعوات الكبيرة التي تقام للوفود وما شابه».
وترى أم عباس (طباخة في إحدى شركات القطاع العام) أن الشركة «تنفق مبالغ كبيرة لتوفير وجبة غداء للعاملين فيها محتوية على الفاكهة والخضار، لكن بعضهم لم يحضر لتناول وجبته، إما أن يكون مجازا أو موفدا، فيتم جمع هذه الوجبات من قبل العاملات وجلبها لعائلاتهن».
مثلما يشكل الطعام هاجس تلك العائلات، ينال أيضا اهتمام الأشخاص، إذ كلما مر أبو كريم، وهو رجل متوسط العمر يهتم كثيرا بصبغ شاربه وتعديل هندامه، بين محال سوق البصرة القديمة ينادي عليه أصحاب المحال من الشباب «أبو كريم.. وين (أي إلى أين)؟»، فيرد بإشارة إلى إحدى الجهات، وعند الاستفسار من أحدهم قال «إنه يعرف مكان أي مجلس فاتحة أو وليمة كبيرة تقام خاصة في الأحياء الثرية كي يحضرها على مدى الأيام المقامة فيها لتناول الطعام على اعتباره من المعزين أو المدعوين». وأكد بعضهم أن «مجموعة على شاكلة أبو كريم يجرون اتصالات فيما بينهم لتبادل المعلومات عن مواقع الموائد للذهاب معا أو يتوزعون عليها».