«فيفا لا ديفا» مسرحية كسرت عظام الممثلة وأعادتها بأجنحة

بعد 7 أسابيع من التأجيل بسبب سقوط رندا الأسمر عن الخشبة

رندا الأسمر وهي تؤدي دورها في مسرحية «فيفا لا ديفا»
TT

الديفا رندا الأسمر وحدها على المسرح، على مدى ساعة وربع الساعة، تتقمص شخصيات، وتتحدث بلهجات مختلفة، وتسافر في البلدان، وتنتقل في الأزمان، وتأخذ متفرجها إلى ضحك قوي ثم تخفت به إلى حزن كامد هامد.

في مسرحيتها الجديدة «فيفا لا ديفا» التي بدأت عروضها على مسرح بابل في بيروت، وتستمر حتى 28 من الشهر الحالي، تستقبل الممثلة رندا الأسمر جمهورها وهي على المسرح، جالسة على كرسي مكتب متحرك وقد ارتدت ثيابا سوداء، ونظارات سوداء وقبعة من نفس اللون، حول عنقها فرو، وفي يدها عصا تتوكأ عليها وتبتسم للداخلين، تهمس وكأنها ترحب بهذا أو تبش لذاك، وهي تتأرجح بهدوء على الكرسي. إلى جانب الممثلة طاولة صغيرة تعلوها شاشة نرى عليها «أفيش» المسرحية. الإضاءة القوية في الصالة كما على المسرح، تجعل المتفرج لا يرى فرقا بين المساحتين اللتين تداخلتا بفعل وجود الممثلة التي تتواصل مع الناس بشيء من البشاشة. «دخلكن طفو هالتلفونات» - تقول الممثلة للجمهور - وتنطلق متسائلة: «عال كندا.. شو بها كندا. عشرة ملايين كيلو متر مربع أحسن من عشرة آلاف». في إحالة إلى البلد الصغير لبنان الذي تريد أن تهجره صوب بلد أكبر وأرحب.

تنكسر المسافة بين الجمهور وما يحدث على الخشبة. فالممثلة رندا الأسمر تلعب دور ممثلة أيضا عاشت فورة المسرح اللبناني في السبعينات، ثم عايشت الحرب الأهلية وشهدت الانحدارت المتلاحقة، وها هي تسبح في ضياعها، ولا تعرف إن كان ما تتذكره حقيقة أم وهما. قصة الممثلة التي تستعيد تاريخها بعد أن تجاوزت الخمسين، هي نفسها قصة لبنان الجريح، لذلك يكفي أن تسمع المرأة تروي انهياراتها وأحلامها وخيباتها، حتى تعرف أن الفرق بين الوطن والمواطنة الموجودة أمامك يكاد ينعدم.

ليس مصادفة أن يكون مخرج العمل نبيل الأظن آتيا من مهجره الفرنسي ليقدم هذا العمل، وأن تكون كاتبة النص الروائية هدى بركات هي أيضا مقيمة خارج لبنان بعد أن هجرتها إلى باريس. فهذا النص الذي يستعيد الحرب وما فعلته بالبلد لا يصدر إلا عمن لم يعايشوا ما هو بعدها. جيل ما زال يحاكم الحرب ويراها مستمرة وغير قابلة للتوقف.

منذ المشاهد الأولى يتكشف للمتفرج أنه أمام عمل على الرغم من دراميته، فإنه لا يتخلى عن روح السخرية والمرح. رندا الأسمر برعت في الأداء، من دونها لم يكن للنص الذي تتداخل فيه الأدوار، وتتمازج الأصوات الداخلية أن يصمد على المسرح. عرفت من دون كلل أن تخرج من شخصية لتدخل في غيرها، من دون تكلف.

رندا الأسمر عمليا ليست وحدها على المسرح. الشاشة الموجودة أعلى الطاولة، سرعان ما يختفي الأفيش الموجود عليها لتظهر صورة امرأة تتحدث إلى الممثلة، إنها الملقنة التي لا تكتفي أن تضع الكلام على فمها، بل هي تعارضها وتشاكسها وتصفها بالجنون. صعب على المشاهد، أن يميز في هذا الحوار الهذياني الحارق بين الممثلة وملقنتها، أو بين الأدوار الكثيرة التي تتقمصها وهي تسترجع مجدها الغابر.

بقليل من اللعب والتحايل على وظيفة الملابس التي ترتديها، استطاعت الأسمر أن تنتقل من دور السيدة المتأنقة بالفرو إلى دور المرأة المعنية باستدارة أعضائها، تتأمل خصرها، بعد أن نفضت المعطف عنها، ثم يتحول المعطف الأسود إلى غطاء للرأس حين تدخل الممثلة في دور المرأة الشيعية المشاركة في عاشوراء.

في القسم الثاني من المسرحية تكبر الخشبة وتتسع، يصبح الجو مظلما، نلمح شاشات كثيرة انتشرت على المسرح. تعود الممثلة التي كانت تنتظر اتصالا يأتيها من معجب أو صحافي أو ربما قريب ينتشلها من وحدتها، لكنه لا يأتي، تتمدد على ما يشبه السرير، وتعود إلى هذياناتها، لكنها هذا المرة تبدو أكثر وحدة وعزلة والتصاقا بالواقع الذي وصلت إليه. ملابسها تشبه حالها، إنها بعيدة عن البهرجة والقبعة التي يبدو أنها مشترك كانت تراه ينتقل من عمل فني إلى آخر. إنها الآن بقميص للنوم، متخففة من الزينة والإكسسوارت، وكل ما يمكن أن يشوش الرؤية. الحقيقة بدأت تتبدى أكثر وضوحا وعريا لهذه السيدة المنهكة التي توصلت بعد حوار طويل ومتشعب مع الذات إلى نتيجة: «لأ، ما بيصير... هيدا البلد بلدي، وهيدي الحرب حربي ونص». لذلك تطالب صارخة وحزينة: «هالمرة خلص بدنا بلد لولد الولد».

الروائية اللبنانية المعروفة هدى بركات بدت متأثرة للغاية مع انتهاء حفل المسرحية الافتتاحي، بعدما شاهدت نصها حيا على المسرح. ورندا الأسمر التي قالت للجمهور إنها تحبه، إثر تصفيق حار وحاد ومتكرر، لا بد أنها تخوض عملا سيبقى محطة في حياتها الفنية. ليس فقط لأنها أبدعت وجعلت للنص أجنحة وهي تهبه روحها، ولكن أيضا لأنها تلعب الدور بعد مغامرة استثنائية. فقد كان يفترض لهذه المسرحية أن تعرض منذ سبعة أسابيع، لكن رندا الأسمر سقطت أثناء التمرينات عن الخشبة، وأصيبت بأكثر من كسر، مما اضطرها للخضوع لجراحة والتزام الراحة. وها هي تعود إلى المسرح لكنها متوكئة على عصا. العصا التي جعلتها جزءا أساسيا من الدور، كما أنها لبست حذاء من دون كعب بدل الكعب العالي الذي كان يفترض أن تتأنق به، ومع ذلك بدا أنها قادرة على أن تجعل من العلل سلما تصعد به دائما إلى ما هو أفضل.