السعودية.. نظام القضاء الجديد بين نجاح التطوير والخوف من التغيير

باحث سعودي وصف النظام بالنقلة وحذر من وقوعه في الشكلية وطالب بالتحفيز للتغيير

إنشاء وزارة للعدل قبل 36 عاما وضع أرضية تطوير منظومة العدالة وتحديث الأنظمة
TT

مر القضاء في السعودية بمراحل من التطوير وبرز الاهتمام بتنظيم هذا القطاع الحيوي بعد توحيد البلاد على يد الملك المؤسس عبد العزيز، ورغم العوائق التي واجهتها عملية تطوير إدارة جهاز القضاء لأسباب اجتماعية، فإن جهودا عظيمة بذلت لتطوير هذا الجهاز خلال 8 عقود وصولا إلى المعاصرة والتحديث الإداري.

وتتويجا لمراحل سابقة بذل فيها الملوك والعلماء جهودا كبيرة ومتواصلة لتطوير النظام القضائي في البلاد وتحقيق التخصص والتمايز من خلال أهداف محددة، فقد جاء إنشاء وزارة للعدل قبل 36 عاما من اليوم ليضع أرضية تطوير منظومة العدالة وتحديث الأنظمة والإجراءات وإدخال التقنية الحديثة والمرافق، أخذا بالجوانب التطويرية التي تتوافق مع أسس الشريعة الإسلامية، وخلال العقود الثلاثة الماضي شهدت المرحلة إنجازات وتطورات تمثلت في إقرار أنظمة المرافعات الشرعية، والإجراءات الجزائية والتسجيل العيني العقاري، والمحاماة، والتحكيم، والإدارة الإلكترونية للقضاء الشرعي.

وقبل عامين ونصف العام، وفي إطار إجراءات الإصلاح التي تبناها الملك عبد الله بن عبد العزيز بهدف إحداث تغيرات إدارية واقتصادية كبرى في البلاد، خدمة للتنمية وإخضاع الأنظمة للتطوير المستمر، أطلق الملك مشروعا لتطوير مرافق القضاء والارتقاء به وخصص له مبلغ 7 مليارات ريال، وهو ما يعد نقلة نوعية نحو ترسيخ مبادئ معينة لترفع شأن منظومة القضاء السعودي إلى آفاق عالمية، كما عبر عن ذلك الدكتور عبد الملك بن أحمد آل الشيخ في كتابه عن تطور إدارة القضاء في السعودية التي قدم خلالها دراسة تحليلية متميزة عن إدارة القضاء في السعودية وتطورها عبر تاريخها الحديث من خلال وضع الأنظمة الإجرائية وتعزيز الإدارة التنظيمية للقضاء بتحليل نصوصها وموادها وإبراز أهدافها. وشدد المؤلف، الذي عمل في وزارة العدل لعدة سنوات، وحصل على أعلى ميدالية من المحكمة العليا الأميركية، على أن تحقيق النقلة التطويرية لمرافق القضاء بما يتفق مع نظام القضاء الجديد أمر ليس باليسير، وعمل لا يتحقق بين عشية وضحاها، وإنما يعد مشروعا طويل الأمد يحتاج إلى تخطيط وتنظيم وجهد ومتابعة وتمويل، وأصبح الأمر متعلقا بتخطيط كل ما يتطلبه تحقيق هذا النظام من متطلبات والعمل على تنفيذه حتى لا يتهم هذا النظام بالشكلية.

وشدد المؤلف على مبادئ الأنظمة الجديدة وأهميتها، مشيرا إلى أن الجدل سيظل قائما إلى أن تقوم الساعة بين فكرتين للتطور: الأولى متشائمة تسأل عن ما فائدة المبادئ والسياسات والمثل العليا والتوجهات المثالية، إذا كان الخلل أمرا واقعا من شأنه أن يعوق التطبيق الحر لهذه المبادئ والسياسات والتوجهات؟ أما الفكرة الثانية فتؤكد أنه لولا وجود هذه المبادئ والسياسات والتوجهات المثالية، لما تقدمت الأمم والشعوب، ولما قامت الحضارات، ولما تغير الناس إلى الأحسن، لأنهم يقتدون بهذه المبادئ والقيم، ولنا المثل الأعلى فيما جاء به الدين الإسلامي الحنيف من مبادئ وقيم ومثل عليا، استطاعت أن تغير قوما من الهمجية والبدائية والجهالة إلى أصحاب حضارة وتقدم، وأناروا الطريق للغرب الأوروبي آنذاك فنهض من ظلمات القرون الوسطى وجهالته إلى عصر النهضة، فتعلموا من الحضارة الإسلامية حينما احتكوا بها في الأندلس وفي الحروب الصليبية وفي رحلاتهم التجارية التي كانت تمر بالبلاد الإسلامية.

ويشير الدكتور آل الشيخ إلى أنه، وعلى صعيد تطور جهاز القضاء ومنظومة العدالة في المملكة العربية السعودية في العصر الحديث، فقد استطاع الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - التخلص من التشتت والتفرقة والتشرذم الذي كان عليه القضاء قبل حكمه، وفي وضع الأسس واللبنات الأولى التي قام عليها صرح العدالة في المملكة وسار عليها أبناؤه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد - رحمهم الله - وأخيرا تم تتويج الجهود على يد الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث جسدت مبادئ واضحة لتطور وتقدم منظومة العدالة في المملكة، لافتا إلى أنها ليست بمبادئ فقهية، بل يغلب عليها الطابع الإداري والتنظيمي وقد جاءت تلك المبادئ على النحو التالي:

المبدأ الأول: «المأسسة» (المؤسساتية) «المأسسة» اصطلاحا «أو المؤسساتية - كما يطلق عليها بعض الكتاب» تعني: وضع التنظيم في هيكل أو بناء دائم مستمر ومستقر للأدوار والاختصاصات والوظائف والصلاحيات والعلاقات بين أجزاء هذا الهيكل وضعا يساعده على تحقيق أهدافه المحددة سلفا في قرار تأسيسه، وبحيث لا يعتمد على أشخاص ولا يتغير بتغير الأشخاص، وبهذا المعنى تصبح «المأسسة» عكس «الشخصية» أو اعتماد المنظمات على الأشخاص، فإذا انتهى دور الشخص لسبب أو لآخر، انتهت المنظمة أو تغيرت تغيرا جذريا في هيكلها وسياساتها وقياداتها ومبادئها وخطط التطوير والتنمية بها، ولقد بدأ تنبه المسؤولين عن تطوير الأجهزة الحكومية في دول العالم منذ بداية القرن العشرين، إلى أهمية «المأسسة» وهو ما أطلق عليه البعض (دولة المؤسسات).

ولقد أسهم النظام الجديد للقضاء في ترسيخ مبدأ «المأسسة» الذي ترجع جذوره إلى نظم سابقة، ولكنه ترسخ بشكل واضح في هذا النظام، وذلك في مستويات عدة:

على المستوى العام للمنظومة ككل، تم وضع الهيكل العام لمنظومة العدالة وضعا يقوم على مؤسسات ذات وظائف ومهام محددة، فالوزارة وما يتبعها من فروع وإدارات في العاصمة والمناطق والمحافظات تختص بالجوانب المالية والإدارية، بينما تختص المحاكم بمستوياتها ودرجاتها المختلفة وأنواعها المحددة في نظام القضاء بالجوانب الشرعية والفنية في تطبيق الشريعة الإسلامية، فأصبحت هناك تقسيمات وأدوار محددة نظاما، ومستقرة لا تتغير بتغير الأشخاص، لا من حيث الشكل ولا المضمون، فالمهام واضحة محددة وكذلك الصلاحيات والعلاقات.

وعلى مستوى الحكم، لم يعد الحكم منوطا بانفراد القاضي، فكما أن القاعدة في محاكم الاستئناف والمحكمة العليا أن القضية تنظر من ثلاثة قضاة ويتسثنى من ذلك قضايا القتل والقطع والرجم والقصاص في النفس أو فيما دونها فتنظر من 5 قضاة. فكذلك الحال في المحاكم الجزائية الابتدائية فإن القضية تنظر من 3 قضاة، باستثناء بعض القضايا فتنظر من قاضٍ فرد، حسب تحديد المجلس، أما المحاكم العامة ومحاكم الأحوال الشخصية والمحاكم التجارية والعمالية فقد جعل النظام للمجلس الحق في تحديد ما يُنظر من قاضٍ فرد، وما ينظر من أكثر من قاض.

ولعل معنى هذا هو تفضيل ولي الأمر تعدد القضاة في الأحكام لضمان العدالة وعدم الاعتماد على الاجتهادات الفردية والشخصية عند الحكم، دعما لمبدأ «المأسسة» بقدر الإمكان.

ويوضح المؤلف أن النظام الجديد أسهم في ترسيخ مبدأ «المأسسة» والبعد بقدر الإمكان عن الاعتماد على الأشخاص، ضمانا لاستقرار منظومة العدالة واستمرارها في القيام بوظائفها على أسس ثابتة مهما تغير الأشخاص، فالأشخاص يتغيرون والنظام ثابت.

المبدأ الثاني: استقلال القضاء (الفصل بين السلطات) ويشير آل الشيخ إلى أن «النموذج المنشوري» (لفردريجز) أوضح أن ملامح الدول في مرحلة الانتقال تتمثل في تداخل السلطات (overlapping)، والمقصود تدخل السلطة التنفيذية في أعمال السلطات الأخرى بأساليب مباشرة أو غير مباشرة، فالمادة الأولى من نظام القضاء الجديد تنص على أن «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء».

فقد نقل النظام الجديد كل السلطات المتعلقة بتعيين القضاة والإشراف عليهم ومراقبتهم وتدريبهم وسائر الأمور المتعلقة بهم من وزارة العدل - وهي جزء من السلطة التنفيذية - إلى المجلس الأعلى للقضاء، وهو مجلس يتكون أعضاؤه، وفق ما نصت عليه المادة الخامسة من نظام القضاء الصادر في عام 1428هـ، « يؤلف المجلس الأعلى للقضاء من رئيس يسمى بأمر ملكي وعشرة أعضاء على النحو التالي: رئيس المحكمة العليا، أربعة قضاة متفرغين بدرجة رئيس محكمة استئناف يسمون بأمر ملكي، وكيل وزارة العدل، رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام، ثلاثة أعضاء يتوافر فيهم ما يشترط في قاضي استئناف يسمون بأمر ملكي، تكون مدة رئيس المجلس والأعضاء أربع سنوات قابلة للتجديد».

المبدأ الثالث: تعدد درجات التقاضي : يرى آل الشيخ أن من الملامح المشتركة لنظام القضاء الجديد تعدد درجات التقاضي، فقد استحدث في النظام ما يسمى بدرجة محاكم الاستئناف.

وهناك محاكم الدرجة الأولى التي تنظر في النزاع (ابتداء) لأول مرة (ولذلك تسمى في بعض الدول محاكم ابتدائية) وغالبا ما تكون متخصصة أو عامة وهناك محاكم الدرجة الثانية وتسمى محكمة الاستئناف وهي محكمة لإعادة النظر في وقائع الدعوى، إذا استأنف أحد طرفي الدعوى لعدم رضائه بحكم محكمة الدرجة الأولى.

وهناك - أخيرا - المحكمة العليا في نظام القضاء الجديد، وهي محكمة موضوع في بعض أحوالها (كالقتل، أو الرجم، أو القطع، أو القصاص) ومحكمة (شريعة ونظام) في أحوال أخرى. كما أنها تختص بتقرير المبادئ العامة في المسائل المتعلقة بالقضاء.

والغرض من تعدد درجات التقاضي هو ضمان تحقيق العدالة بأقصى درجة ممكنة، وإعطاء أكبر فرصة للمتقاضين للاطمئنان إلى عدالة الأحكام وإلى عدم التحيز في حكم محكمة الدرجة الأولى، وعادة ما يكون قضاة الاستئناف من ذوي الخبرة، بعد اشتغالهم بالأعمال القضائية لمدة لا تقل عن تسع عشرة سنة على الأقل، حتى يطمئن الناس لأحكامهم (مادة 41) وتزداد على ذلك سنتان لمن يعين في المحكمة العليا.

المبدأ الرابع: توحيد الاجتهاد القضائي (الدور الرئيسي للمحكمة العليا) وفي تناوله لأحد المبادئ الخاصة بتطور وتقدم منظومة العدالة في السعودية، يوضح الدكتور عبد الملك آل الشيخ أن الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - اهتمت بفتح المجال للنظر والاجتهاد من قبل القضاة، حسبما يظهر لهم، على أن يتم تأصيل الأحكام وتقعيدها وذلك لما في الحياة المعاصرة من متغيرات ومستجدات، ولأجل ذلك لا بد من الاهتمام بالسوابق القضائية والأحكام التي صدرت فيها، حتى تكون مرشدا لما يأتي بعده من أحكام في قضايا مشابهة للوقائع نفسها، وفتح باب الاجتهاد لا يمنع من تنظيمه وخضوعه للمراجعة، حتى يمكن استخلاص المبادئ القضائية ومجموعات الأحكام المتميزة، ذات الموثوقية والمصداقية للإفادة منها.

المبدأ الخامس: التخصص القضائي كان تشكيل محاكم متخصصة أمرا جوازيا في النظام السابق للقضاء، وأصبح مبدأ ثابتا في نظام القضاء الجديد، فقد نصت المادة (التاسعة) من الفصل الأول من الباب الثالث (في الفقرة الثالثة) على أن محاكم الدرجة الأولى هي: المحاكم العامة، المحاكم الجزائية، محاكم الأحوال الشخصية، المحاكم التجارية، المحاكم العمالية.

وأجازت الفقرة نفسها للمجلس الأعلى للقضاء، إحداث محاكم متخصصة أخرى بعد موافقة الملك، كما أن مبدأ التخصص ممتد إلى محاكم الاستئناف، حيث نصت المادة (الخامسة عشرة) على أن يكون في كل منطقة محكمة استئناف أو أكثر تباشر أعمالها من خلال دوائر متخصصة، وأضافت المادة (السادسة عشرة) أن دوائر محكمة الاستئناف هي: الدوائر الحقوقية، الدوائر الجزائية، دوائر الأحوال الشخصية، الدوائر التجارية، الدوائر العمالية.

وكذلك نصت الفقرة الرابعة من (المادة العاشرة) على أن (المحكمة العليا)، وهي أعلى درجات التقاضي، تباشر اختصاصاتها من خلال دوائر متخصصة بحسب الحاجة. إذن فالتخصص مبدأ نافذ في كل درجات التقاضي، بل إن النظام أنشأ تخصصا داخل التخصص النوعي، على سبيل المثال - فالمحكمة الجزائية، وهي محكمة درجة أولى تتألف من دوائر أكثر تخصصا وفقا للمادة (العشرين)، وهي: دوائر قضايا القصاص والحدود، دوائر القضايا التعزيزية، دوائر قضايا الأحداث.

تلك العناية بمبدأ تخصص القضاء لما له من مزايا نحو إتقان العمل والإلمام بكل جوانب التخصص النوعي وكل سوابقه ومسائله إمكانية توفير مكتبة متخصصة تحوي المراجع الفقهية، والسوابق القضائية والأحكام والمبادئ التي تحكم مثل هذا النوع من التخصص، مما ييسر على القاضي علمية الاجتهاد.

التخصص المكاني يساعد على معرفة ظروف المكان وأحواله والسكان وأفكارهم واتجاهاتهم، وكل ما يؤثر في تصرفاتهم وأعمالهم، ويسهل للقاضي الاجتهاد.

عدم تشتيت انتباه القاضي بين أكثر من نوع من القضايا وعدم تنازع الاختصاصات.

التخصص هو إحدى سمات التنظيم المعاصر، خصوصا في المنظمات الكبيرة، لتحقيق كفاءة الأداء، وتعتبره النماذج الإدارية معيارا للتقدم والكفاءة والإنجاز العالي.

المبدأ السادس: الحداثة والمعاصرة والنزوع إلى الأصالة ويؤكد الدكتور آل الشيخ على أن الحداثة والمعاصرة من السمات الواضحة للنظام الجديد للقضاء، بل إن هذه السمة ترقى لأن تكون مبدأ من المبادئ التي تقرها الأنظمة الجديدة، وذلك على الوجه التالي:

هناك أولا الحداثة المعاصرة من حيث الشكل، وهو ما يتضح من البناء التنظيمي الهرمي لمنظومة العدالة التي تتكون من ثلاثة أجهزة مستقلة عن بعضها البعض، ولكنها تخضع جميعا للسياسة العامة للدولة، وبينها تنسيق وهذه الأجهزة يمثلها: وزارة العدل وفروعها وإدارتها، وهي تتولى الجوانب المالية والإدارية وتهتم بالبحث والتطوير ورفع كفاءة جميع أجهزة منظومة العدالة، وهي تعتبر حلقة الوصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهي تعمل أساسا على حمل عبء الجوانب المالية والإدارية والتقنية، حتى يتفرغ القضاة لمهامهم، وبالتالي يتحسن أداء منظومة العدالة كما وكيفا. والقضاء العام، ويتكون من المجلس الأعلى للقضاء الذي يتولى الإشراف على كل أمور القضاء والمحاكم، ويعتبر على رأس الجهاز القضائي. أما المحاكم بدرجاتها الثلاث، فتتمثل في محاكم الدرجة الأولى بتخصصاتها المختلفة التي تخضع أحكامها إلى النظر والاستئناف من محاكم الاستئناف والمحكمة العليا التي تتولى مراجعة أحكام محاكم الاستئناف، وهذا التدرج الهرمي لدرجات المحاكم الثلاث، إنما هو ضمان لتحقيق العدالة وتأكيد عليها. ولقد حدد المرسوم الملكي والصادر قبل عامين ونصف العام بعض الأساليب للتنسيق بين المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل، ويحقق الغاية من هذه المنظومة بنشر العدالة، ومن أمثلة هذه الأساليب التنسيقية أن يكون وكيل وزارة العدل عضوا في المجلس الأعلى للقضاء، كما نصت على ذلك (المادة الخامسة) من نظام القضاء، وفي حالة تنازع الاختصاص بين محكمة خاضعة لنظام القضاء ومحكمة إدارية، أو أي جهة أخرى تختص بالفصل في بعض المنازعات يرفع طلب تعيين الجهة المختصة إلى لجنة الفصل في تنازع الاختصاص، التي تتألف من 3 أعضاء أحدهم من المحكمة العليا والآخر من ديوان المظالم أو الجهة الأخرى، والثالث من القضاة المتفرغين أعضاء المجلس الأعلى للقضاة (المادة السابعة والعشرون من نظام القضاء).

أما الحداثة والمعاصرة من حيث الموضوع، فتتضح من التحديد الدقيق لاختصاصات كل محكمة ودوائرها، والتحديد الدقيق لمؤهلات وخبرات القضاة في مختلف الدرجات، وكذلك في واجبات القضاة ومسؤولياتهم وكفايتهم، وكذلك معاونيهم بتفصيل لا يدع مجالا للاختلاف أو التأويل والتفسير في أي أمر يتعلق بالقضاء والقضاة، بل وصلت الدقة إلى حد أن النظام الجديد للقضاء تناول في الباب الخامس «وزارة العدل ومهامها الإدارية والمالية والبحثية»، وفي الباب السادس «كتابات العدل واختصاصاتها»، وفي الباب السابع «موظفي المحاكم وكتابات العدل»، وهذه الدقة في تحديد كل ما يتعلق بمنظومة القضاء بتكاملية في مرسوم واحد، لهو دليل على شمول النظرية ووضوح الرؤية. راسما لجميع أجهزة منظومة العدالة وأطرافها التوجهات الاستراتيجية والمبادئ والسياسات العامة التي تساعد الجميع في عملهم على تحقيق العدالة المرجوة من القضاء.

الخلاصة أن نظام القضاء الجديد قد روعيت فيه الحداثة في بنية منظومة العدالة ووظائفها وحوفظ على الأصالة في الوقت نفسه متمثلة في الحرص على التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية.

المبدأ السابع: العناية بتحسين كفاءة منظومة العدالة حمل النظام الجديد للقضاء نقاطا تتعلق بتحسين كفاءة منظومة العدالة، كما ونوعا، من خلال التأكيد على أن تحديث الجوانب البنيوية والوظيفية لمؤسسات القضاء وأجهزته وطريقة عملها ينعكس بالضرورة على كفاءة منظومة العدالة بشكل مباشر وغير مباشر، كما أوجبت المادة (السادسة) من نظام القضاء الجديد على المجلس الأعلى للقضاء إعداد تقرير سنوي يتضمن إنجازات القضاء ومعوقات العمل ومقترحات معالجتها، كما أوجب نظام القضاء على المجلس الأعلى للقضاة (بموجب المادة السادسة) إصدار لوائح وقواعد اختيار القضاة وقواعد تفريغهم للدراسة، وهو ما يمكن أن يحقق نقلة نوعية في قدرة المؤسسة القضائية، وتحسين كفاءة قراراتها في استقطاب الكفاءات القضائية وتعيينهم وتطوير قدراتهم، بل إن النظام نص على الحد الأدنى من شروط التعيين والترقية ولم يتركها للاجتهاد، فنصت المادة (الثالثة والثلاثون) من نظام القضاء على أنه تشترط فيمن يشغل درجة ملازم قضائي، بالإضافة إلى ما ورد في المادة (الحادية والثلاثين) أن يكون حاصلا على الشهادة الجامعية بتقدير عام لا يقل عن (جيد)، وبتقدير لا يقل عن (جيد جدا) في الفقه وأصوله، وأضافت الفقرة (د) من المادة (الحادية والثلاثين)، أن يجتاز امتحانا خاصا يعقده المجلس الأعلى للقضاء إذا كان حاصلا على شهادة معادلة لشهادة كليات الشريعة في المملكة، كما حدد النظام عدد سنوات الخبرة المطلوبة كحد أدنى عند الترقية للدرجات الأعلى من الملازم القضائي (أولى درجات سلم القضاء)، وعزز النظام الجديد عدالة التوزيع الديموغرافي للقضاة حين نص على إنشاء محاكم عامة ومتخصصة في جميع المحافظات، ومحاكم استئناف في جميع المناطق وبعض المحافظات المزدحمة بالسكان، وهو ما يضمن تحقيق معيار هام من معايير كفاءة السلطة القضائية، كما اهتم النظام بتوفير المزايا المالية التي تحقق استقرار القضاة ونزاهتهم، وحفظ هيبتهم وبابتعادهم عن مظنة الوقوع في التحيز من أجل مصالح مادية متبادلة، فقرر النظام في المادة (الرابعة والأربعين) (فقرة 3) بمنح بدل يعادل راتب ثلاثة أشهر لمن يعين للمرة الأولى في السلك القضائي، كما اهتم بتنمية قدراتهم ودراستهم، وكل ما من شأنه أن يضمن لهم مستوى يليق بعظم المهمة الملقاة على عاتقهم، وعزز النظام الجديد قواعد الرقابة الإيجابية على أعمال القضاة، وفي المادة (الخامسة والخمسين) نص النظام على أن يكون هدف التفتيش القضائي على أعمال القضاة هو تعزيز مدى كفاية القضاة، وقياس مدى حرصهم على أداء الواجبات، على أن يكون التفتيش بحد أدنى مرة في السنة، ويمكن أن يكون مرتين لو توفر أعضاء التفتيش، وتضمنت المادة (السابعة والخمسون) ضمانات للتأكد من عدالة الرقابة على أعمال القضاة، بالنص على تبليغ القاضي بالتقرير وتقدير كفايته، ومن حقه الاعتراض خلال ثلاثين يوما ورفعه إلى المجلس الأعلى للقضاء، ليفصل في الاعتراض بعد بحثه، ويبلغ المعترض بقرار المجلس كتابة، وعالج النظام الجديد للقضاء كل ما من شأنه أن يعوق التنسيق والتكامل بين أجهزة منظومة العدالة.

المبدأ الثامن: رعاية حقوق الإنسان إن رعاية حقوق الإنسان لا يقصد بها رعاية حقوق الإنسان القوي أو القادر، ولكنها رعاية حقوق الإنسان الضعيف، والأقل قدرة، والمظلوم أولى بتلك الرعاية ومن له حقوق عند الآخرين ولا يستطيع أن يحصل عليها، فتقوم الدولة عن طريق منظومة العدالة، بوضع الأمور في نصابها ورد الحقوق إلى أصحابها حتى يستقر الأمر ويشيع العدل في المجتمع ويستتب الأمر لله تعالى ولسنة رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) ولأولي الأمر، هذا المبدأ (رعاية حقوق الإنسان) هو إذن المبدأ الشامل والرسالة السامية التي تسعى نظم القضاء إلى تحقيقها، وتظهر في كل باب وفصل من فصول النظام الجديد للقضاء، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نذكر بعض الملامح التي تعكس هذا المبدأ في النظام الجديد للقضاء.

الحرص على تحقق العدالة للجميع، من مواطن ومقيم في أرجاء المملكة الواسعة، فقد نصت المادة (الثامنة عشرة) من الفصل الرابع من نظام القضاء الجديد على أن تنشأ محاكم الدرجة الأولى في المناطق والمحافظات والمراكز حسب الحاجة، وهو ما يعني إنشاء مئات من محاكم الدرجة الأولى حتى يمكن أن تغطي حاجة الناس، ولا يتكلف الناس مشقة السفر إلى أماكن بعيدة للمطالبة بحقوقهم بل سيجدون المحكمة - إن شاء الله - في أقرب مركز لهم، وبخاصة الضعفاء وكبار السن والنساء، كما في قضايا الأحداث أو الأحوال الشخصية أو القضايا العمالية، وكذلك على مستوى محاكم الدرجة الثانية (الاستئناف) وفقا للمادة (الخامسة عشرة) من النظام فإنها توجد في كل منطقة، ويمكن إنشاء دائرة استئناف متخصصة أو أكثر في المحافظات.

ازداد اهتمام النظام الجديد بالفئات الضعيفة من المجتمع مثل: الأطفال (دوائر الأحداث)، والنساء (محكمة ودوائر الأحوال الشخصية)، والعمال بأجر (المحاكم والدوائر العمالية)، وصغار موظفي الحكومة ومستخدميها، وكذلك العاملون في الأجهزة ذوو الشخصية المعنوية العامة أو ورثتهم والمستحقون عنهم، وكذلك الأجانب وطلبات تنفيذ الأحكام الأجنبية.

وكما اهتم النظام بالأمور الوظيفية للقضاة، فقد اهتم بضرورة تعيين عدد كاف من الموظفين من باحثين وفنيين وإداريين وكتاب ومسجلين، وأعوان القضاة من كتاب الضبط وكتاب السجل والمحضرين والمترجمين والخبراء وأمناء السر ونحوهم، ونصت المادة (الحادية والثمانون) وغيرها.