جذور العنف السياسي ضاربة أطنابها في العراق.. والانتخابات ليست استثناء

معارضو صدام في المنفى عادوا بعد الغزو الأميركي ليمارسوا السياسات ذاتها التي مارسها

TT

بالقرب من سياج مزرعة أشجار الرمان المتناثرة بين أشجار بستان حمضيات، استقبل شيخ قبلي في محافظة الأنبار، التي كانت مسرحا للعنف من قبل، الانتخابات العراقية الجديدة هذا الشهر باليقظة، ربما وعيناه على الماضي.

حشد مرشح الانتخابات البرلمانية عيفان سعدون العيفان، المقرات الانتخابية التي تعمل على مدار الساعة بمراقبين له. كان مخططوه الاستراتيجيون يتهامسون بآخر الأخبار حول معسكرات منافسيه. وتم توزيع بطاقات الهاتف على العشرات من مراقبي الانتخابات التابعين له الذين تحدثوا، إن لم تكن الحقيقة، عن ممارسة ديمقراطية هنا، من الشفافية والمحاسبة وسيادة القانون. عشية الانتخابات أصدر العيفان تعليمات مشددة «إذا وجدتم من يغش اضربوه».

هناك عراق يستحق الاحتفاء اليوم فيه صور أصبحت ملتصقة بعقول ملايين المتوجهين إلى صناديق الانتخابات لانتخاب قادة فشلوا حتى الآن في تحقيق طموحات من اختاروهم. وهناك حقيقة أيضا، وهي أن الدولة لا تزال تعمل وفق سياسات عبر عنها أحد السياسيين هنا بالقول «إما فائزين تماما أو خاسرين تماما». هذه القواعد البلاغية عادة ما يتم تجاهلها، في بيئة متشربة بدافع نحو التعصب. والتهديد بالعنف وأحيانا العنف ذاته هو مسار السياسة، وأحيانا ما يمارس كوسيلة لإنهاء اقتسام الغنائم.

قبل الانتخابات قتل أكثر من 100 فرد في بغداد ونينوى وديالى. وخلال الحملة ترنم النواب السابقون بشعارات حماسية «لن نسمح بالمحسوبية». ومع بدء التصويت الأسبوع الماضي بدأ أصدقاء الجميع، بدءا من إياد علاوي المرشح العلماني والمتوقع أن يرأس الحكومة وانتهاء بالشيخ العيفان في الأنبار، بدأوا يحذرون من أن العنف سيكون النتيجة الطبيعية للتزوير في الانتخابات، وهي كلمة باتت أبعد ما تكون عن التوقعات. وعندما بدأ فرز الأصوات وضع الناخبون ثقة غير متوقعة في الموالين للزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي تتحمل الميليشيا التابعة له قدرا من اللوم في أسوأ مذابح طائفية شهدها العراق. وقد أسماها أحد الأصدقاء هنا ذات مرة بثقافة «الحذاء».

وقال لي الصديق في عام 2006، قبل فترة طويلة من زيارة بوش المشهودة إلى بغداد «عندما يقف أحد ضدك، وعندما يختلف معي شخص ما أرشقه بالحذاء. فنحن نعيش هنا ثقافة الحذاء».

جذور العنف السياسي ضاربة أطنابها في العراق، الذي كان مسرحا للصراعات بين الفرس والرومان، وكذا العثمانيين والصفويين، والآن بين الأميركيين والإيرانيين.

قد يجد البعض جلسات الليل الهادئة هنا استعارة للعنف في النهار. ففي مصر، مع شهرتها بخفة الظل والمرح، كان النيل مصدر سعادة هذه الدولة، إذ حولت مياه فيضانه الصحراء إلى مزارع. أما الفرات فقال لي أحد الفنانين ذات مرة إنه دمر عندما فاض، ولذا فإنه متهور وغير متوقع، كما ترك بعد انحساره طبائع جافة وأضفى على العراقيين هذا الطابع من الغلظة.

فيما يسارع آخرون إلى القول بأن جذور العنف تمتد إلى الحجاج بن يوسف الذي حكم العراق والذي لقب العراقيين بـ«أهل الكفر والنفاق»، وقال فيهم خطبته المشهورة «إني أرى أمامي رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها، وإني لقاطفها، وإني أرى الدماء تتسربل بين العمائم واللحى».

حاكم العراق في العصور الوسطى تجسد في العصر الحديث في شخص صدام حسين، الذي أعدم معاونوه معارضا له بدق المسامير في جبهته. ولا يزال إرث طغيان صدام حسين بإرثه المضني يلقي بظلاله على العنف الدائر.

قبل تولي صدام حسين السلطة كانت السياسات لا تزال في مرحلة التجريب. وعندما أطاح حزب البعث بعبد الكريم قاسم الذي أسقط الملكية في عام 1963، سعى البعث إلى القضاء على حلفائه الشيوعيين، فقتل وعذب الآلاف في حملة قتل مسعورة لا يزال إرثها حتى الآن يطغى على المشاعر بين العرب من السنة والشيعة. وبعد سقوط صدام حسين كانت البلاد لا تزال تلملم شعثها في أعقاب حرب مع إيران في الثمانينات عندما حمل أكثر من مليون عراقي السلاح وتطوع 600.000 كميليشيات، مما جعل عشر سكان العراق جنودا تربوا في مدرسة العنف.

وبصور مشابهة إلى حد كبير، مارس معارضو صدام حسين في المنفى أسلوب سياسات الديكتاتور نفسه.. حركة سرية ومتطرفة جلبوها معهم عندما عادوا بعد الغزو الأميركي.

يشير المتفائلون إلى أن الزمن لا بد أن يسير، لكن حتى من يتمسكون بالأمل سيتحسرون على أن المساحة أصبحت عملة نادرة في مشهد تسيطر عليه جراح الماضي ولا يزال يحدده ميراثهم.

ويقول جوست هيلترمان، مدير مجموعة الأزمات الدولية «هناك رغبة في سياسات منفتحة، لكن هناك توجها للعنف غرسه النظام السابق وحقيقة المعارضين الذين يحاربون النظام. إنها تشبه إلى حد بعيد الثقافة السياسية التي ماسها النظام السابق».

بالنسبة للكثير من الأفراد الذين زادت مذابح عام 2006 و2007 من صلابتهم، يبدو عراق اليوم أكثر أمنا، فربما تكون الحرب قد انتهت، على الأقل الصراع الطائفي. لكن الصراع السياسي اليوم الأكثر غموضا في العراق، ربما لا يكون أقل خطرا لكنه لا يزال أمرا يفرضه الإحساس الذي دفع إلى القتل الطائفي.

في الكوفة معقل أنصار الصدر في جنوب العراق، لا تزال ألاف أشرطة الفيديو تباع في المتاجر المتداعية التي تحتفي بما يسمى المقاومة الإسلامية في العراق، وميليشيا المجموعة التي حاربت الجيش الأميركي ثم حولت بنادقها تجاه العرب السنة في حرب إبادة ضروس.

كانت حملة لا هوادة فيها من الضربات الصاروخية وإطلاق الصواريخ والتدمير الذي ولد ببطء. في مدينة الصدر، أحد أحياء بغداد الذي يحمل اسم الحركة، توزع منشورات تتهم قادة السنة بإلقاء الوعود «لن تترك مساحة للشيعة لحكم العراق».

في محافظة الأنبار التي تقطنها أغلبية سنية لا تزال توزع أشرطة الفيديو التي تحمل صور قادة الشيعة والتي حمل بعضها عنوان «قتلة». العنف الذي تحمله هذه الأفلام يلقى روجا كبيرا - صورة تلو صورة من الجثث المشوهة والمغطاة بالدم أو التي حرقت بالحامض والتي مزقت بالرصاص أو المثاقيب أو السكاكين.

النسخة الأكثر اعتدالا من السياسات المتشددة ظهرت الأسبوع الماضي خلال فرز الأصوات. فقد حذر الكثير من القادة من أن التزوير سيؤدي إلى إطلاق العنف، في إشارة إلى القلق والشائعات بمحاولات اغتيال، فيما هدد البعض بالإعلان عن عدم شرعية النتائج. ويبدو أن الجميع يحاولون تفنيد القواعد التي لا يعرفها الجميع.

ربما كانت تلك مناورة، لكن أقوال السياسيين لا تزال تترد أصداؤها في الشارع. وفي أحد أحياء الطبقة العاملة في بغداد أصر تاجر على أن انتصار علاوي المرشح العلماني سيرفض من قبل الأحزاب الأخرى. وقال «ستعود حينها الميليشيات إلى الشوارع».

ويقول سامي العسكري، المشرع والمرشح ضمن قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي «إنها ثقافة. فتاريخ المنطقة يمضي أغلب الوقت مع المنتصرين. وأصبح ذلك جزءا من المجتمع وجزءا من الثقافة. ليس من السهل إخراج المجتمع من هذه الفوضى. نحن بحاجة إلى الوقت وأن نكيف أنفسنا على الحقيقة الجديدة».

الصديق الذي حدثني عن ثقافة الحذاء في عام 2006 شرح لي الأمر بصراحة كبيرة، عندما قال لي الأسبوع الماضي «لا يزال هذا صحيحا، من فكرة استثناء الآخر ورفض كل ما يصدر منه. فثقافة الحذاء تلعب دورا مهما في منطقة السياسة الآن».

خدمة «نيويورك تايمز»