ترام القاهرة.. نقلها من «البداوة إلى الحضارة»

اعتبر حدا فاصلا في تاريخ المدينة وغيّر وجه العاصمة المصرية قبل 114 عاما

يوم 12 أغسطس 1896 شقت قطارات الترام شوارع العاصمة المصرية
TT

حضارة الشعوب، وتطورها الاقتصادي والاجتماعي كانت، ولا تزال، تقاس بطول شبكة مواصلاتها التي تغطي أراضي الدولة. التطور الاقتصادي البريطاني يعزيه البعض إلى شبكة السكك الحديدية، التي كانت تعتبر الأكبر في العالم كله، وهذا ما حاولت تقديمه أيضا إلى الهند، «جوهرة التاج البريطاني».

وفي مصر، سهل وجود الترام انتقال أهالي القاهرة واختلاطهم، «ومن ثم بدأ الرأي العام يتكون ويصبح خطرا على الجهات الحاكمة»، كما جاء في كتاب صدر حديثا، وكثر عدد المسارح والجمعيات الخيرية والمدارس والأندية الثقافية والرياضية والصحف والمجلات، إضافة إلى بروز دور الحركة العمالية، واتساع دائرة الحركة الوطنية.

ساكن حي العباسية، شرقي القاهرة، لم يكن يفكر في الذهاب إلى حي مصر القديمة إلا لأمر مهم «وقلما يفعل ذلك»، وكان التلميذ الذي لا يجد مدرسة في الحي الذي يقيم فيه «ينصرف في الغالب عن الدراسة»، إلى أن ظهر الترام، فأمكن التلميذ الذي لا يجد مدرسة في حيه أن يلتحق بمدرسة في حي آخر.

وكان مجلس الوزراء قد صادق عام 1894 على منح امتياز لشركة بلجيكية بإنشاء 8 خطوط للترام في القاهرة، تبدأ كلها من ميدان العتبة الخضراء، وسط القاهرة، وفي العاشرة من صباح أول أغسطس (آب) 1896 أجرت الشركة «حفلة تجريبية» لتسيير أول قطار، واصطف الآلاف على الجانبين «ليشاهدوا أول مركبة سارت في العاصمة بقوة الكهرباء، والأولاد يركضون وراءها مئات وهم يصرخون: العفريت.. العفريت». أما الاحتفال الرسمي بتسيير الترام، فجرى يوم 12 أغسطس، إذ أقامت الشركة زينة باهرة في ميدان العتبة، وامتدت موائد الطعام والمرطبات.

ويرصد كتاب نادر، صدرت طبعته الأولى قبل أكثر من أربعين عاما، كيف أحدث ظهور الترام في القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر «ثورة هائلة» في المجتمع المصري. ويقول محمد سيد كيلاني في كتابه «ترام القاهرة.. دراسة تاريخية اجتماعية أدبية»، أن يوم 12 أغسطس 1896، حين شقت قطارات الترام شوارع العاصمة المصرية، يعد «حدا فاصلا في تاريخ المجتمع القاهري»، الذي انتقل من البداوة إلى الحضارة.

ويقول إن الترام أظهر حاجة الناس إلى الراحة والبهجة، «وأصبح اسم حديقة الأزبكية مرادفا في الأذهان للنزهة والبهجة»، وكذلك الحال فيما يخص الخروج إلى النيل عند منطقة روض الفرج، حتى أن شركة الترام اضطرت إلى جعل كل قطار مؤلفا من عربتين.

ويقع الكتاب في 144 صفحة متوسطة القطع تمثل حجم الكتاب في طبعته الأولى عام 1968، وأضيفت إليه مقدمتان للشاعرين أسامة عفيفي وطارق هاشم، رئيس سلسلة «ذاكرة الوطن» ومدير تحريرها، المعنية بنشر كتب مختارة تعبر عن تاريخ مصر الثقافي والاجتماعي، وتصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة التي طرحت هذا الأسبوع طبعته الثانية.

ولكن كيلاني، مؤلف الكتاب، لم يقارن ردود فعل الناس على تسيير قطارات الترام في القاهرة وإنشاء شبكة السكك الحديدية، التي ربطت بين كثير من المدن المصرية الحيوية، منذ منتصف خمسينات القرن التاسع عشر.

وينقل عن صحيفة «المقطم» في اليوم التالي للافتتاح الرسمي تسجيلها لحضور أهل العاصمة: «مشهد قلما شهد مثله أهالي المشرق.. أن تجري مركبات كبيرة تقل المئات من الناس.. بقوة تتولد على شواطئ نهر النيل، من احتراق الفحم وإدارة الحديد أمام المغناطيس، ثم تجري على أسلاك منصوبة في الهواء، والقضبان ممدودة على الأرض فتدير عجلات المركبات.. هذا هو الترامواي الكهربائي، الذي كانت أجرة ركوبه 6 مليمات للدرجة الأولى، و4 مليمات للدرجة الثانية».

وقالت الصحيفة أيضا إن الشركة عينت 400 عامل مصري في المشروع الجديد، كما نشرت الصحف إعلانات تغري بشراء قطع أراض «على مسافة أمتار من خط الترامواي» الذي رفع أسعار الأراضي والمنازل.

ويسجل أن سكان كل حي بالعاصمة كانوا في شبه عزلة عن الأحياء الأخرى وخصوصا البعيدة، فلما شق الترام الشوارع «حدثت ثورة هائلة في جميع نواحي الحياة القاهرية»، إذ طاب للشبان السهر.. وضعفت رقابة الآباء على الأبناء الذين نشأوا «على غير مذهب آبائهم»، وفي المقابل اتسعت حركة العمران، ونشطت الحركة التجارية، ونشأت المحلات التجارية الكبرى في ميدان العتبة الخضراء، وما حوله. ومن وجوه التغير الاجتماعي التي يسجلها الكتاب، أن المرأة «استطاعت» ركوب الترام وحدها في غياب زوجها إلى حيث تريد.

ولكنه يقول إن بعض الرجال من «السفالة.. يركبون القطار ذهابا وجيئة، وليس لهم أرب سوى التهكم وإبداء سفالتهم لكل امرأة يجدونها في القطار وحدها ولا رجل معها.. ومما ساعد على انتشار موجة الفساد أن خطباء المساجد أخذوا منذ بدء العصر الترامي يحذرون الناس وينذرونهم باقتراب موعد القيامة..».

واستشهد على هذا الاستنتاج بصحيفتي «المنار» عام 1898 و«اللواء» عام 1904، إذ نشرت الأولى أن الإلحاح على أن الترام من علامات الساعة سهل «ارتكاب الفواحش»، ونشرت الثانية أن تركيز خطباء المساجد على الجنة والنار.

ويقول المؤلف إن الشركة اتفقت مع الحكومة المصرية على لائحة خاصة بتنظيم تسيير الترام، «وأهم بنودها أن كل من يحدث غوغاء أو سكران أو مصاب بعاهة تشمئز منها النفس، يمنع من ركوب الترام»، وعدم السماح بتسلق الأعمدة الكهربائية، أو تعليق أغراض عليها أو السير أمام القطارات «أو السير خلفها».

ويعلق قائلا إن الإمام محمد عبده اقترح إضافة كلمتي «بين الشريطين» عقب عبارة «أو المسير خلفها»، واستحسن اقتراحه.

ويقول كيلاني إنه على الرغم من ظهور السيارات الخاصة فيما بعد، فإن الترام ظل «سيد الموقف كوسيلة للانتقال»، شعبية ورخيصة منذ السادسة صباحا إلى ما بعد منتصف الليل بساعة ونصف الساعة، وبخاصة خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، حين «كادت السيارات تختفي من الشوارع» في العاصمة المصرية.

ويسجل أيضا أن ظهور الترام أحدث ثورة عمرانية، وغير نظرة الناس إلى المنازل، فبعد أن كانوا يألفون سكنى الأزقة والحواري، تاقوا للسكنى في شوارع واسعة، وفضلوا الإقامة بالقرب من الميادين، وترتب على هذا التطور شروع شركة بلجيكية عام 1905 في إنشاء حي جديد في «واحات عين شمس أو هليوبوليس» ولكن الناس أطلقوا على هذا الحي اسم «مصر الجديدة»، لأن الاسم كان ثقيلا على الألسنة.