صندوق النقد الدولي للدول التي تعيش حياة بذخ: انتهى الحفل

أكد أن على مواطني الدول المتقدمة العمل لفترات أطول قبل التقاعد وتوقع القليل من الحكومة

TT

في لغة صندوق النقد الدولي، يتوقف مستقبل العالم على «إعادة التوازن والتضامن»، كلمات مطهرة لن تثير ضجة على ما يبدو. من لا يريد مزيدا من التوازن في حياته؟ لكن الترجمة أكثر حمقا نوعا ما، شيء على نظام: «ابتلع الأمر. فقد انتهى الحفل».

في سياق المحافظة على تقدم الاقتصاد العالمي، يحتاج الأفراد في الولايات المتحدة وبقية أنحاء العالم المتقدم إلى العمل لفترات أطول قبل التقاعد، ودفع ضرائب أعلى وتوقع القليل من الحكومة. وماذا عن الصادرات الرخيصة المصفوفة على الأرفف في سلاسل المتاجر الكبرى مثل «وول مارت» و«تارجت»؟ يجب أن يكون سعرها أعلى.

هذا هو المدلول العملي لسلسلة من أوراق السياسة والبيانات الصادرة في الأيام القليلة الماضية عن المسؤولين في صندوق النقد الدولي، الذين لديهم تاريخ طويل من المساعدة على تحقيق الاستقرار لاقتصاديات الدول وحل المشكلات المالية العالمية، حيث إنهم يضعون خطة للحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي والحد من مخاطر وقوع «الكساد الكبير» مرة أخرى.

وتم تسليم هذه الرسالة بمهارة، وتم نسجها في وثائق تحت عناوين مثل: «حل إرث الأزمة ومواجهة التحديات الجديدة للاستقرار المالي» وتم تبريرها عن طريق مفاهيم مثل: «رفع سن التقاعد وفقا لمتوسط العمر المتوقع»، كما أشار إليها المستشار الاقتصادي في صندوق النقد الدولي أوليفير بلانشارد الأسبوع الحالي.

لكن بفهم هذه الرسالة بصورة كاملة، فإنها تعني القيام بإعادة صياغة جادة إلى حد ما للتوقعات في العالم المتقدم: تغييرات في قواعد العمل، وأسعار المنتجات، وقيم العملة، بل وحتى العقد الاجتماعي بين الحكومات والمواطنين المسنين.

وقال دومينيكو لومباردي، المدير التنفيذي الأسبق للصندوق، «الأمر ليس متعلقا بأن مستويات المعيشة سوف تنخفض، لكنها لن ترتفع بصورة سريعة كما كانت من قبل». وأردف قائلا إن الأفكار التي يناقشها قادة العالم «كلمات مشفرة. إنهم لا يحبون كلمات مثل فرض ضرائب أعلى وخفض الإنفاق».

كان صندوق النقد الدولي يحظى لفترة طويلة بسمعة على أنه حامل الأخبار السيئة، فهو يرسل فرقا مثقفة للغاية وماهرة دبلوماسيا لإخبار الدول المضطربة اقتصاديا بعدد الأشخاص الذين يتعين عليها فصلهم من العمل وأي البرامج يتعين عليها خفضها للحصول على المساعدة المالية. لكن الصندوق يجد نفسه الآن في وضع شاذ وهو أن الحديث ليس مع سيادة مريضة واحدة، لكن مع الدول المتقدمة في قلب النظام العالمي، بما في ذلك الولايات المتحدة.

وتتمركز الوصفة الخاصة به على مفهومين: يعد «إعادة التوازن» فكرة يوافق عليها الجميع تقريبا، بما في ذلك الفنيون في الصندوق والرئيس الأميركي باراك أوباما وقادة مجموعة العشرين المؤلفة من الدول القوية اقتصاديا. وفي الجهود الواسعة، تعني هذه الفكرة الحد مما كان بمثابة نقل ضخم لرؤوس الأموال من الدول التي تستهلك أكثر مما تنتج، مثل الولايات المتحدة، إلى الدول التي تنتج أكثر مما تستهلك، مثل الصين.

وكان انعدام التوازن هو المفتاح إلى التحديث في الصين: اشترت هذه الدولة سندات الحكومة الأميركية بعشرات المليارات من الدولارات لجعل الدولار أكثر قوة مما ينبغي أن يكون عليه ولجعل قيمة عملتها المحلية - وصادراتها - منخفضة. وفي أحد جوانبه، لعب تدفق الدين الأميركي لبنك الشعب الصيني دور بطاقة ائتمانية تراكمية عملاقة، مما يضمن المستهلكين عبر الولايات المتحدة ويقود نماذج الأعمال لمتاجر التجزئة الكبرى مثل «وول مارت».

ومفاد الرسالة من صندوق النقد الدولي هو أن هذه البطاقة بلغت الحد الأقصى وأن انعدام التوازن في التدفقات التجارية في حاجة إلى تصحيح.

وكيف نحقق ذلك؟ إحدى الطرق هو أن الصين - أو المصدرين الآسيويين بصفة أكثر شمولا - تدع عملتها ترتفع في الأسواق العالمية. والطريقة الأخرى، والتي أثارها الخبير الاقتصادي في الصندوق بلانشارد الأسبوع الحالي، ستشمل خفض قيمة الدولار واليورو والعملات الأخرى في الدول المتقدمة.

وقال بلانشارد: «قد تحتاج الاقتصادات في الدول المتقدمة ككل إلى خفض عملاتها من أجل زيادة صافي صادراتها».

والجانب الأقل وضوحا في هذه المعادلة هو أنه إذا انخفضت قيمة الدولار، فسترتفع قيمة الواردات بغض النظر عن مصدرها. وستكون أسعار الصادرات الأميركية أرخص نسبيا - وهذا شيء جيد بالنسبة للشركات الأميركية التي تحاول أن تصـــــــبح أكثر تنافسا في الأسواق الخارجية - لكن أسعار كل شيء بداية من أجهزة الآي بود إلى الملابس الجينز وأحدث صيحة من الدمية باربي سترتفع.

وقال جيه كرايغ شــــــيرمان، نائب رئيس الشــــــؤون الحكومية للاتحاد الوطني لتجارة التجزئة، إن الفكرة التي عرضها صندوق النقد الدولي «من الممكن بكل تأكيد أن تعيد ترتيب توازن الاقتصاد الدولي، لكن ليس بطريقة يستفيد منها المواطن العادي في الولايات المتحدة».

وأردف قائلا: «إذا حقق عدد صغير من المصانع زيادة في الصادرات، فذلك أمر جيد بالنسبة لهم، لكنه يجعل الغالبية العظمى من الناس تدفع المزيد من أجل السلع الاستهلاكية. فالحديث عن خفض الاستهلاك وزيادة الادخار شيء جيد، إنه منطق البرج العاجي. لكن ذلك ليس الاقتصاد العالمي الحقيقي. يتعين على الناس وضع الملابس على ظهور أطفالهم ووضع الطعام على الطاولة». ورفضت «وول مارت» التعليق.

ويعد «التضامن المالي» فكرة أخرى روجها قادة صندوق النقد الدولي. ومرة أخـرى، يبدو أن الهدف لا يمكن الاعتراض عليه: عانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة عجزا قياسيا أثناء الأزمة، وذلك لتغطية تكاليف برامج الإنقاذ، نظرا لأن الضرائب وغيرها من العائدات انخفضت. ويقول الصندوق إن الدين الحكومي في جميع أنحاء العالم المتقدم سيرتفع من 80 في المائة من الناتج الاقتصادي قبل الأزمة إلى نحو 115 في المائة من الناتج بحلول عام 2014.

ويعد ذلك منحنى خطيرا، ويقول مسؤولون بالصندوق إنه بحلول العالم المقبل، ستحتاج الحكومات إلى إعلان خطط «ذات مصداقية» لخفض العجز السنوي لديها، وتحويله إلى فائض وبداية تسديد الديون المستحقة عليها.

ومستوى التصحيح المطلوب عال، ربما يصل إلى 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي الولايات المتحدة، سيرتفع ذلك إلى نحو 1.4 تريليون دولار سنويا، وسيتم اقتطاعه من البرامج الحكومية أو جمعه من خلال فرض ضرائب جديدة.

وسيكون تحقيق معدل نمو أفضل من المتوقع أو تحقيق زيادة في الإنتاجية أو حتى حدوث مفاجآت في شكل تكنولوجيات جديدة شيئا مفيدا. لكن الشيء الذي يلوح في الأفق من المرجح أن يكون الحساب العسير، وهو الشيء الذي تواجهه اليونان حاليا وتعرف الدول المتقدمة الأخرى أنه أصبح وشيكا، حسبما قالت وزيرة الخارجية الفرنسية كريستين لاغارد في مقابلة أجريت معها الخميس الماضي.

«إننا جميعا في القارب نفسه» قالت لاغارد فيما كانت تتوقع نقاشا حادا في فرنسا حول التغييرات في قواعد المعاش التي من شأنها أن تجعل كلا من العاملين في الحكومة وكذلك كثيرا من العاملين في القطاع الخاص يضيفون سنوات قبل الوصول إلى سن التقاعد.

ويدرس صندوق النقد الدولي حاليا قضايا مثل أي أنواع الضرائب سيتم رفعها وأي البرامج سيتم خفضها لجعل «التضامن» أقل إزعاجا قدر الإمكان. لكنه ينظر إلى زيادة سنوات العمل على أنها أداة مهمة، من شأنها أن توفر مبالغ كبيرة من الأموال في المستقبل من دون الحاجة إلى خفض الإنفاق والنشاط الاقتصادي في الوقت الراهــن. وفي الولايات المتحدة، بدأت لجنة مالية جديدة دراسة كيفية جعل الدين الحكومي الأميركي في المستوى الطبيعي.

وفي الوقت الذي يتم فيه مناقشة قضايا مثل إصلاح المعاشات، قالت لاغارد: «ستشاهد الكثير من العناوين تشتكي وتئن وتثير القضايا». لكن في النهاية «لا يوجد مخرج».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»