«آخر ساعة» قبل الموت.. تحضيراتها تضحك اللبنانيين

المخرج التونسي عز الدين قنون في بيروت للمرة الأولى

مشهد من مسرحية «آخر ساعة»
TT

اللبنانيون يحبون المسرح التونسي، والعرض الذي قدمه المخرج عز الدين قنون لليلتين متتاليتين، ضمن «مهرجان الربيع»، على خشبة مسرح «دوار الشمس» لمسرحيته «آخر ساعة»، كان فرصة إضافية لتوثيق العرى بين المشاهد اللبناني الفضولي، وهذا المسرح الذي نظر إليه باستمرار في بيروت على أنه متقدم ويشكل مدرسة تستحق الاكتشاف.

والمفارقة أن «آخر ساعة» هي مسرحية تستدعي ضحك المتفرج، رغم أنها تتحدث عن الموت، وتنتظر منه أن يبقى متأهبا للسخرية التي تطلقها الممثلة الأساسية في العمل نجمة (الممثلة ليلى طوبال وهي كاتبة النص أيضا) بعد أن علمت أن الموت أمهلها ساعة واحدة فقط، ليقبض بعدها روحها.

المتفرج هنا عليه أن يقضي هذه الساعة ليعرف ما الذي ستفعله نجمة في الدقائق الستين الأخيرة المتبقية لها. وبما أن نجمة سيدة «مودرن» ولها جمعيات وأعمال خيرية، وارتباطات اجتماعية، وصلة قوية بالعالم الإلكتروني، فإن طريقتها في وداع الحياة ستكون تليفونية، من خلال إلغاء مواعيد دنيوية شديدة الهامشية، وتحضير رسالة إلكترونية تعلن نعيها، متمنية أن تخصص لها صفحة على الـ«فيس بوك» لمواكبة الموت الذي تريده متناسبا مع الحياة العصرية التي عاشتها.

أربع شخصيات تتقاسم مع طوبال العمل، هناك اثنتان منهما تأتيان من العالم الآخر، واثنتان من الحياة الدنيا. في البيت، وفي اللحظات الوداعية، هناك الدادا التي ربتها بعد وفاة والدتها، وأخوها الصغير الذي يعشق الموسيقى ويتمنى أن يعيش عمره من أجلها. بالإمكان القول إننا أمام ثلاثة أجيال في بيت واحد، المربية التي تمثل الفكر التقليدي السائد ونجمة التي تتمرد حتى على طقوس الموت، وتريد لنفسها وداعا متصالحا مع النمط العصري الذي عاشته، والشقيق الذي يمثل جيلا أصغر، بملابسه الفضفاضة، والسماعات في أذنيه، والقبعة على رأسه، فيما تظهر الأحاديث نمطا حياتيا متفلتا يعيشه لا يخلو من تعاطي المخدرات وممارسات أخرى متفشية بين الشباب.

توظف الحكاية كل هذه العناصر المتناقضة لتظهر أجيالا ترتبط في ما بينها، بقدر ما تشعر بفروقات كبيرة تجعلها تسير في طرق متباينة، فلا الدادا تنسجم أفكارها مع نجمة، ولا نجمة ترى في أخيها الشاب ما يرضيها. هكذا وهي ترتب مراسم الوداع والدفن، تبدو نجمة في غضب من ممارسات كثيرة رفضتها في حياتها، ولا تريدها أن ترافقها إلى مستقرها الأخير. وكما في الأعمال المسرحية التونسية فإن كل الحوارات تؤدي إلى النقد الاجتماعي والسياسي. ولا تتردد نجمة في أن تربط بين موتها والموت في فلسطين والعراق وحتى أفغانستان، ساخرة من شريط الأخبار التلفزيونية وبروده في إعلام المشاهدين عن مئات الموتى، بكلمات بسيطة ومختزلة. كل ما يتعلق بالموت حاضر في المسرحية، لكنه موت يستدعي تذكر مفارقات الحياة، للسخرية منها، وإحداث نوع من المفاجأة.

اعتمد المخرج على التقشف، فلا شيء على المسرح سوى كرسي هزاز يجلس عليه الممثلون بطرق مختلفة لتنويع المشهديات، ودرج في الناحية الخلفية للمسرح يأتي منه ورائه أناس من العالم الآخر، لملاقاة نجمة قبل ذهابها إليهم. يخرج من وراء الدرج الأب، الذي تستذكره نجمة وتعاتبه لأنه لم يشعرها بوجوده الأبوي خلال حياته، فيما يعاتب الأب العائد ابنه على مساره الذي لا يشرف عائلة عاشت على الزرع والأرض لأنه يهدر عمره في الموسيقى. الجميع يتعاتبون، بحيث لا يرضى أحد عن خيارات الآخر، التي تبدو له بعيدة عن خياراته الشخصية. ومن وراء الدرج، أي من الآخرة، يأتي حبيب نجمة السابق ليخبرها بأنه في انتظارها هناك رغم أنها نسيت موته ورحيله بسرعة لم يكن يتوقعها، في حين هي تود رجلا آخر لآخرتها، رغبة في التغيير، وعيش تجربة غير تلك التي عرفتها على الأرض.

وفي تعويض عن الديكورات التي اختفت بشكل شبه كامل، مع إبقاء الخشبة فارغة، تم اللعب على الإضاءة بإتقان واضح، كما أعطى النص أهمية قصوى إلى جانب شغل استثنائي على أداء الممثلين وحركتهم وتلاوين حركتهم الجسدية الطيعة.

ساعة ونصف من العرض لم يكن خلالها الموت ضيفا ثقيلا، بل هو امتداد للحياة، واستكمال لعبثيتها، ويسجل للعمل أنه قدم المفارقة الصعبة بين الحداثة والتقليد في المجتمع العربي، وما تحدثه من شروخ من دون عظات أو أحكام مسبقة، أو حتى انحياز. بقيت أنماط الحياة للشخصيات تقدم طوال العمل، كواقع يستحق أن يعرض ويقرأ وينظر إليه بحيادية. واستفادت ليلى طوبال ككاتبة للنص لتقدم أسئلة حول الظلم الذي يلحق بالمرأة، التي تصنف كعورة إن هي تكلمت أو تحركت، وتبقى عورة ومقصية في غالب الأحيان. نجمة التي ثأرت لأنوثتها وعاشت حياتها طولا وعرضا، لا تزال تنظر إلى حياتها كنوع من النضال ضد الظلم، وربما أن مماتها سيكون استكمالا لرحلة المشاق.

المسرحية لا تنتهي بموت نجمة، وإنما بحكايات أو «تخاريف»، يقصها كل واحد من أفراد البيت للآخر. وكما أن كل شيء في حياتنا وفي حياة نجمة بات افتراضيا، فإن الموت في «آخر ساعة» يكتسب هذا الطابع. و«التخاريف» كما يقول التونسيون ستفتح الباب على حيوات سابقة، وأخرى لاحقة، ترويها الدادا ونجمة والشقيق الصغير.

اللهجة التونسية بإيقاعها السريع، مع تعديل في بعض الكلمات لتقريبها للمتفرج اللبناني وكذلك السوري الذي شاهد العمل الأسبوع الماضي في دمشق وقبلها المتفرج الفلسطيني في رام الله، ربما ساهمت في إمكانية التقاط جزء كبير من الحوارات من قبل متفرجين، لم يألفوا اللهجات المغاربية. «آخر ساعة» تقوم بجولات متعددة ستصل بها إلى أوروبا، وهي عمل تجريبي جريء، لعل واحد من أهم عيوبه طول النص، الذي بدا بحاجة إلى شيء من الاختزال في بعض الأماكن، خاصة أن المسرح التونسي لا يزال يحتفظ بتقليد المسرحيات الطويلة، بينما تميل الأعمال المسرحية في المنطقة إلى شيء من الاختصار.