بغداد.. بلا بغداد (9): الثقافة العراقية تحارب لإثبات وجودها.. وسياسيون يسعون لشراء المثقفين أو «قتلهم»

كاتب عراقي: الحكومات لم تعين أي مثقف بارز وزيرا للثقافة خوفا من إبداعه

TT

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية؛ أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا.. ناسها؟

لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها، وببساطة، بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.

«الشرق الأوسط» استغرقت، ولأكثر من شهر، في سطح المدينة وعمقها.. حولها وفوقها؛ فوق أرصفتها وعلى حافتي نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان؛ بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة.

هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.

يبدو أن المثقفين العراقيين وحدهم هم من يسبح ضد التيار السائد، يغردون بهارموني منتظم ومبدع خارج أسراب النشاز والضجيج السياسي واللغط الطائفي والهرج الذي يسود ما يسمى بالمكونات السياسية والانتخابية والكتل البرلمانية الأكبر والمتوسطة والأصغر، وبكل المقاييس.

إلا أنهم، وبالتأكيد يدفعون ثمن إصرارهم على أن يبقوا في الضفة الصحيحة؛ ضفة الإبداع من دون أن يتأثروا بكل التشويش الذي يغلف المشهد العراقي العام والخاص.

القائمة ستطول لو رصدنا الخط البياني للخروقات التي تعرض لها مثقفو العراق، وإذا أضفنا إليهم أسماء الإعلاميين الذين قدموا حياتهم تضحية من أجل مهنيتهم ومصداقيتهم، وخدمة قضيتهم، فسنحتاج إلى ملاحق لتروي قصص هؤلاء الأبطال الذين لا سلاح لهم سوى كلمتهم في معركة غير متكافئة على الإطلاق، ففي الجهة، أو الجهات التي تقف ضدهم هناك مختلف أنواع أسلحة الفتك والدمار الأعمى.

كنا هناك، في بغداد، عندما عرفنا أن واحدا من أبرز الشعراء والكتاب العراقيين يقبع في سجن رث ومزدحم، ينحشر إلى جانب العشرات من المتهمين بجرائم قتل وسرقة، ذلك هو المثقف العراقي رياض قاسم الذي يناهز عمره السبعين عاما، حيث اتهم كيديا بجريمة قتل عادية سرعان ما فسرت وفق المادة «4 إرهاب» التي تبلغ أقصى عقوبتها الإعدام شنقا.

يوضح أحد المقربين من قاسم قائلا لـ«الشرق الأوسط» لقد «وكّلنا محاميا عنه، وأثبتنا للسلطات أن رياض قاسم لم يكن في بغداد، وحتى في العراق في تاريخ حادثة القتل المزعومة؛ إذ كان في لبنان يعمل مديرا لتحرير مجلة عراقية تصدر من بيروت، وهذا ما أثبتته وثائقه الرسمية، لكن مع ذلك استمر اعتقاله لما يقرب من شهرين مع أنه يعاني من أمراض في القلب ومن داء السكري».

أطلق سراح قاسم الذي يعد معلما لأجيال من الكتاب والصحافيين قبل أيام من كتابة هذا الموضوع، وبعد أن نظم المثقفون العراقيون حملة واسعة للوقوف معه، ترجمت مفرداتها على الصحف العراقية ومواقع الإنترنت، فخرج إلى فضاء الحرية بضحكته المجلجلة «لعدم ثبوت الأدلة ضده»، ومن غير اعتذار أو تعويض يستحقه لحرمانه من حريته التي يكفلها الشرع السماوي والأرضي، والدستور العراقي المتجاوز عليه من قبل المسيّسين باستمرار.

قصة قاسم هي نموذج لما يحدث وما يمكن أن يحدث للمثقف العراقي، ولأي مواطن عراقي كل يوم في بغداد وغيرها من المدن العراقية «في محاولة لاضطهاد وعزل المبدع العراقي عن مهمته الحقيقية في الوقوف مع شعبه وقضاياه»، حسب ما يوضح كاتب عراقي التقيناه في مقهى «الشابندر» في شارع المتنبي، مشددا على أن «مهمتنا اليوم هي ألا نتراجع، أن نواصل الكتابة والرسم والشعر والتصوير والتمثيل والعزف كي لا تضيع هوية البلد الإبداعية وسط هذا الضجيج والخراب المتعمد».

نتمشى مع الشاعر والكاتب الأستاذ الأكاديمي الدكتور مالك المطلبي في شارع المتنبي: «مع كل ما يحدث، أنا متفائل بأن العراق سيعيد بناء نفسه وإنسانه، فنحن اليوم نمر بمرحلة الثقافة المعادة صناعتها أو صياغتها، لكننا عندما نكون في قاعة المحاضرات بكلية الفنون الجميلة أو كلية الآداب مثلا ونستمع إلى نقاشات واستنتاجات الطلبة ونشاهد نتاجاتهم الإبداعية في الفنون التشكيلية أو المسرح أو الموسيقى، نتفاءل جدا»، ثم يشير إلى عشرات الآلاف من الكتب التي تتوزع فوق الأرصفة والزحام البشري الذي يؤثث شارع المتنبي يوم الجمعة، وينبهنا قائلا: «انظر، ألا يدعو مثل هذا المشهد إلى التفاؤل؟ وإلى انتصار الثقافة العراقية؟ هؤلاء الناس من مختلف الفئات الاجتماعية، كلهم يبحثون عن كتب معينة يريدون اقتناءها وقراءتها، هذا مشهد لا يتكرر في بلد وشعب مر بمحن مرعبة مثل ما مر به العراق».

المثقفون العراقيون أصروا على مواجهة أزماتهم السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بقوة لا تدانيها اجتماعات وإخفاقات السياسيين العراقيين، فبينما كانت درجة حرارة أجواء بغداد تقترب من الـ56 مئوية، والفضاء ملغم بالتراب الناعم، كان هناك عدد كبير من المثقفين العراقيين يزدحمون في صالة العرض بجمعية الفنون التشكيلية القريبة من حي المنصور، قبالة متنزه الزوراء بجانب الكرخ، والمناسبة كانت افتتاح معرض تكريمي للفنان العراقي ناظم رمزي، وتحت عنوان «ناظم رمزي.. 50 عاما من الفن». هناك كان حشد من الجمهور الاعتيادي يقف متأملا الأعمال التشكيلية والفوتوغرافية لواحد من أهم التشكيليين والفوتوغرافيين العراقيين، والمبدع في فنون الطباعة على مدى نصف قرن، هو المبدع ناظم رمزي الذي كان يستمع من بغداد وعبر آلاف الأميال وهو في شقته بلندن، وعبر الهاتف لوصف لافتتاح المعرض من قبل تلميذه وصديقه الفنان مريوش، مع تحيات صوتية من أصدقاء لم يلتقيهم منذ أن ترك العراق قسرا في أواسط الثمانينات.

في جمعية الفنون التشكيلية، وهي واحدة من المؤسسات الثقافية النادرة التي تعاند الأحداث من أجل أن تبقى كمعلم حضاري بارز، كانت هناك ميسون الدملوجي، وكيلة وزارة الثقافة سابقا، وعضو القائمة العراقية والمتحدثة الرسمية باسمها، وهي السياسية الوحيدة التي تتابع النشاطات الفنية إلى جانب مفيد الجزائري، وزير الثقافة العراقية الأسبق وقيادي في الحزب الشيوعي العراقي. تنوه الدملوجي قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «أنا هنا ليس لأنني سياسية أو عضو في القائمة العراقية، بل لأنني واحدة من هؤلاء الفنانين»، وهي بذلك تذكرنا بأنها معمارية ورسامة وشاعرة لم تبعدها السياسة عن انتمائها الإبداعي الأهم من العمل السياسي، «فالعمل السياسي ينتهي، لكن الإبداع هو الأبقى» حسبما توضح.

كان العرق يتصبب من أجسامنا ونحن نتجول في أرجاء المعرض، فأجهزة التبريد ووسط ظهيرة بغدادية ساخنة وطاقة كهربائية عليلة لا تقدم إلا القليل من جهدها لقاعة واسعة مثل قاعة جمعية التشكيليين، ومع ذلك استمر جمهور المعرض في مواصلة تجوالهم ونقاشاتهم، كان هناك أيضا، مريوش، الرسام حسام عبد المحسن، والناقد التشكيلي عباس شلاه، والرسام قاسم سبتي، وأسماء كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.

الفنانون التشكيليون العراقيون مصرون على أن يؤكدوا وجودهم على خارطة الحياة الثقافية العراقية والعربية، وحتى العالمية، حيث تقام في بغداد باستمرار معارض الفنون التشكيلية، خاصة في القاعات الخاصة؛ إذ «لم تتبق هناك أية صالة حكومية للعروض التشكيلية»، يؤكد الفنان التشكيلي قاسم سبتي الذي وجد في مغامرة افتتاحه لقاعته «حوار» للفنون التشكيلية «أفضل حل لدفع الآخرين لمثل هذه المغامرة من جهة، وكي نجد لنا فضاء نتنفس خلاله بعيدا عن أية سيطرة حكومية أو طائفية أو سياسية»، و«حوار» الواقعة خلف كلية الفنون الجميلة، سرعان ما تحولت إلى مركز ثقافي، وملتقى للمثقفين العراقيين.

ففي بغداد كانت هناك صالات عريقة للفنون التشكيلية تابعة لوزارة الثقافة، مثل المتحف الوطني للفن الحديث، وقاعة الرواق، وقاعة بغداد، وقاعة الرشيد، وصالات مركز صدام للفنون، الذي كان يعد واحدا من أكبر المراكز الفنية في العالم العربي، وتحول اليوم إلى مقر لوزارة الثقافة، إلى جانب صالات معهد وأكاديمية الفنون التشكيلية. يقول سبتي: «الدولة والسياسيون منشغلون تماما عن الثقافة اليوم، دعهم يوفرون الخدمات ويبنون المدارس ويهتمون بالناس، ومن ثم الثقافة، بالنسبة لنا نحن قادرون على مواصلة حياتنا وقضيتنا في الإبداع الفني».

هناك فنانون آخرون كبار حاولوا أن ينشئوا مراكز وصالات فنية، أمثال الفنان الكبير نوري الراوي، واحد من أبرز المثقفين العراقيين، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» عندما زرناه في بيته بحي الحارثية: «لقد قدمت مشروعا كبيرا لوزارة الثقافة لمساعدتي في إنشاء مركز لأعمالي الضخمة وأرشيفي الذي لا يماثله أي أرشيف عن الفن التشكيلي العراقي، لكن الرفض كان مصير هذا المشروع»، ذاكرا: «بعدها استأجرت منزلا كبيرا في شارع الشرطة قريبا من حي العدل وحولته بأموالي الخاصة إلى مركز وقاعة عرض تشكيلي، لكن أحد العاملين معي سرق أعمالي وزورها وراح يبيعها خارج العراق، حتى إني اشتريت في عمان بعض أعمالي الأصلية بألوف الدولارات».

أما الفنان التشكيلي فهمي القيسي، فقد أوضح قائلا: «كان لي مشغل وصالة للعرض التشكيلي في حي الكرادة (خارج) وقد أنفقت عليه ما يقرب من مائة ألف دولار، وأجبرتني الظروف الصعبة على التنازل عنه مقابل عشرة آلاف دولار، ليس لأسباب مالية، بل لأسباب تتعلق بالوضع الثقافي والاجتماعي العام، فنحن نعيش أوضاعا شاذة وغير طبيعية».

على مقربة من جمعية الفنانين التشكيليين تقوم مدرسة الموسيقى والبالية العريقة التي عادت إلى نشاطها بصورة تبشر بالخير، وإلى جانبها هناك مكتبة الطفل العامة، التي اضطرت «دار ثقافة الأطفال»، وهي واحدة من أبرز المؤسسات الثقافية العراقية، إلى اتخاذها مقرا لها. وهذه الدار الريادية في العراق والعالم العربي لا تزال تعمل بنشاط «على الرغم من شح الإمكانات المادية» حسب ما يوضح الفنان التشكيلي عبد الرحيم ياسر، المعاون الفني لإدارة هذه الدار. يقول: «هذه الدار تأسست في نهاية الثمانينات على خلفية رئاسة تحرير (مجلتي) و(المزمار) للأطفال والفتيان، التي تأسست في نهاية الستينات لترفد الطفل العربي في جميع أنحاء وطننا العربي بالمجلات والكتب، وضمت رسامين وشعراء وكتاب أطفال متميزين، ولا تستغرب إن عرفت أن معظم الرعيلين الأول والثاني ما زالوا يعملون في الدار حتى اليوم، أمثال شفيق مهدي وصلاح محمد علي وعبد الإله رؤوف (متقاعد ويعمل من خارج المؤسسة) وعواطف علي ورمزية محمد علي، ونبيل يعقوب، وأسماء كبيرة أخرى، كما أن هذه الدار خرجت رسامين وكتابا يرفدون الثقافة العراقية بإبداعاتهم».

ويوضح الياسري الذي رفض ترك العمل والعراق في أكثر الظروف الأمنية والحياتية تعقيدا، قائلا: «هذا مشروعنا الذي يتوجه لأهم شريحة في المجتمع العراقي؛ الأطفال، ولا نريد التفريط فيه على الرغم من افتقارنا للإمكانات المادية بسبب الميزانية الضعيفة لوزارة الثقافة، وعدم اهتمام الحكومة بمثل هذا المشروع العملاق في جوهره».

«السياسيون العراقيون منشغلون عن الثقافة والمثقفين»، هذا ما يؤكده كاتب عراقي كبير لم يشأ أن نذكر اسمه، وقال: «أنا لا أتحدث لكم من باب الإعلام، بل لأدلي بمعلومات قد تكون معروفة، وغير واضحة أمام السياسيين»، مشيرا إلى أن «النظام السابق أراد أن يحول المثقف العراقي إلى بوق دعائي له، ونجح إلى حد معين في أن يجذب بعض من آمن بسياسة النظام أو المستفيدين، واليوم تسعى الكتل أو الأحزاب السياسية إلى الأسلوب نفسه؛ تحويل المثقف العراقي إلى بوق دعائي لهم، وزادوا في أساليبهم بأن حاربوا من لا يقف معهم، والغريب أننا نرى سيادة أنصاف المثقفين والجهلة في المواقع الثقافية المهمة، فالعراق بلد المثقفين والمبدعين، لكن الحكومات المتعاقبة لم تضع وزيرا للثقافة من بين أسماء المثقفين العراقيين، والوزارة ترضخ اليوم لسيطرة الطائفية والجهل»، ويزيد قائلا: «تصوروا أن الكتل الانتخابية والسياسية لا تضم أية أسماء مهمة من المثقفين العراقيين، هذا لأن السياسي العراقي، دائما مثلما كان، وسيبقى، يخشى المبدع العراقي، ويسعى إما إلى شرائه أو قتله، سواء كان قتلا فعليا أو معنويا، لكننا نعمل على التسلح بإرادتنا للبقاء في وجه هذه الحملات من أجل الثقافة العراقية الراسخة في شجرة الناس والبلد».