أصيلة: دو فيلبان يعتبر الثقافة بمثابة «سمسم علي بابا»

TT

طرحت مشكلة الهوية الثقافية في ندوة «الدبلوماسية والثقافة»، وهي السادسة ضمن ندوات موسم أصيلة الثقافي الدولي الواحد والثلاثين، بشكل ربما أقوى من المعالجة التي حظي بها الموضوع في ندوة «حوار الثقافات العربية: الواقع والتطلعات». وأضفى على الندوة ذلك المنحى، العرض الاستهلالي الذي ألقاه رئيس الحكومة الفرنسية السابق، دومينيك دو فيلبان، الذي اجتمعت فيه صفات الدبلوماسي والمثقف باعتباره كاتبا وشاعرا معروفا في الأوساط الثقافية الفرنسية.

وتخلى الوزير الشاعر عن معطف السياسي، وهو الذي يشق طريقه من جديد في غابة السياسة الموحشة، عله يضمن موقع قدم ثابتا في الاستحقاقات الانتخابية التي تنتظرها بلاده، لكنه على الرغم من نزعته المستقلة لم يخف قناعته بأن الثقافة لا يمكن أن تتطور باستقلال عن سياسة تنهجها الدولة في المجال، وبالتالي فإن المنتسبين إلى عالم الثقافة والآداب والفكر لا يمكنهم مد الجسور وحدهم مع الشعوب والثقافات الأخرى. وشبه دو فيلبان الثقافة بمثابة «سمسم علي بابا»، الذي تحتاج إليه الدول بمقدار المقاولات الاقتصادية العاملة، من أجل فتح أسواق جديدة.

وقال دو فيلبان إن الثقافة تكتسب في العالم المعاصر، أهمية قصوى، باعتبارها تحث على الانخراط في العولمة، ولكنها في الوقت ذاته تعبير عن التشبث بالهويات الذاتية والخصوصيات الوطنية، مؤكدا أن الحكامة الرشيدة الجديدة التي تنشدها العولمة لا يمكن أن تتحقق دون إسهام الثقافات الأخرى، وليس فرضها بالقوة من طرف جهة واحدة، معربا عن الاعتقاد بأن «التنميط العام» للثقافة، يفقدها الخاصية الجوهرية التي تتميز بها، كما يقضي على روح التنوع والتعددية.

واعتبر دو فيلبان أن الرهان على الثقافة الدبلوماسية يشكل المدخل الوحيد الذي يمكن من تجاوز المفهوم الضيق للمصالح، وتجنب التحديات والمخاطر السياسية التي باتت تهدد المجتمعات.

وأضاف دو فيلبان أن العالم كان يعتقد أنه بانتهاء الحرب الآيديولوجية، عقب انهيار جدار برلين، ستنهار كل الحواجز تلقائيا، وأن الليبرالية ستتحول إلى ثقافة كونية، لكن العكس هو الذي حدث، حيث ظهرت في العالم حرب جديدة، تمثلت في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وما تلاها من غزو الولايات المتحدة للعراق، معتقدة الولايات المتحدة بذلك أنها ستحل مشكلات الشرق الأوسط عن طريق القوة.

وقال دوفيلبان إن ما لم تدركه أميركا هو ضرورة الاطلاع على ثقافة العالم العربي، وبالتالي كان بإمكانها تفادي أحداث كبيرة، والانزلاق إلى العنف.

وفي هذا السياق، يرى دو فيلبان أن «الدبلوماسية الثقافية تتيح لنا تحديد القواسم المشتركة باتجاه العولمة، من خلال تأسيس مجموعة من المبادئ المشتركة التي تعترف في الوقت نفسه بالهويات المحلية».

وانتقد دو فيلبان النظرة الإطلاقية التي تهيمن على التوجه نحو العولمة، معتبرا أنه لا توجد حقيقة غربية، موضحا أنها إذا كانت موجودة فهي تظل نسبية.

وأشار إلى وجود تجارب ثقافية متعددة تجسد هذا التعدد وهذه النسبية، وضرب مثالا على ذلك من عمق الثقافة العربية والفرنسية، من خلال قصة «الذئب والحمل» في حكايات الكاتب الفرنسي لافونتين، وكيف أن الذئب أكل الحمل، لكن في كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع نجد أن الحمل تنقذه أمه من الذئب. فالقصة واحدة، يوضح دو فيلبان، لكنها تروى بطرق مغايرة.

وتحدث دو فيلبان عن الجماليات والموسيقى، وقال: «يمكن كذلك النظر إليهما من زوايا نظر مختلفة تحترم الخصوصيات الثقافية»، مشيرا إلى تجربة الرئيس الأميركي باراك أوباما، الرجل الأسود الآتي من أصول أفريقية، الذي تربى في آسيا، وأصبح رئيسا للولايات المتحدة، معتبرا إياه تجسيدا للتعايش بين المشترك والخاص. ومن هذا المنظور نبه دو فيلبان إلى خطورة الاقتصار على الرؤية النمطية الدينية للعالم العربي المتنوع ثقافيا.

وفي السياق ذاته، أكدت لطيفة أخرباش، الوزيرة في وزارة الخارجية المغربية، «الحاجة الملحة والمستعجلة للاشتغال المكثف على قضية الحوار والتفاهم الثقافي، في ظل بروز قوى وفاعلين جدد في المشهد الدولي، يتباهون بإهانة الرموز والمقدسات، ويتلذذون بسفك دماء الناس وهدم العمران، بمنهجية تتعمد تدمير الآفاق الإنسانية الرحبة».

وأضافت أخرباش أن الخطر الذي بات يطرحه هؤلاء الفاعلون يحمل الدبلوماسية، كما يحمل النخب المثقفة، مسؤولية المساهمة في إيصال صوت للتقارب والتواصل الحضاري، مؤكدة أن العمل الدبلوماسي، باعتباره نوعا من التواصل الثقافي، رهين بالاستثمار في تعزيز التكوين الثقافي للدبلوماسيين، والتعاون من أجل تنمية القيم الثقافية المشتركة، وتكثيف شبكات التعاون بين الجامعات.

وأكدت أخرباش قناعة المغرب، باعتباره بلدا محبا للسلام، بأن المجهود الدبلوماسي متعدد الأطراف يمثل بالنسبة إليه مساهمة نوعية في بناء الثقة بين الدول، عبر تهيئة فضاءات وفرص للحوار السياسي، والاشتغال المشترك على قضايا السلم الجماعي.

ومن جانبه، أبرز وزير السياحة والصناعة التقليدية المغربي ياسر الزناكي، أهمية الثقافة باعتبارها «جوهر السياحة»، وقال إنه يوجد ارتباط قوي بينهما، باعتبارها عاملا من عوامل تعميق التواصل والتقارب بين الشعوب، ونبذ مظاهر التعصب والتطرف.

ودعا الزناكي إلى ضرورة تضافر الجهود لتقوية المؤسسات الثقافية الدبلوماسية، بما فيها قوى المجتمع المدني، بهدف النهوض بالسياحة الثقافية، التي تسهم بشكل كبير في تعزيز الصورة الخارجية للدول.

وكان محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة «منتدى أصيلة»، ووزير الخارجية السابق، قد حدد في كلمة الافتتاح إطار وسياق الندوة، التي تندرج ضمن المسار الثقافي العام الذي اتبعته مواسم أصيلة الثقافية خلال دوراتها الماضية، التي تجرأت على طرح قضايا إشكالية في بعديها الوطني والدولي، وكانت ذات ارتباط بالسياسة والثقافة وجل المعارف، من قبيل الحوار بين الشمال والجنوب، والحواجز التي تحول دون تكتل دول هذا الأخير، مثلما تم تشريح الصورة التي كونها الشرق والغرب عن بعضهما.

وأعاد بن عيسى إلى الأذهان أن عدة ملتقيات في أصيلة، أصدرت عدة بيانات بإلحاح من المشاركين فيها، وكانوا نخبا فكرية وسياسية، مثلوا في ذلك الحين كل المشارب الفكرية التي آمنت بالحوار والإصغاء للرأي الآخر، وهي الأهداف ذاتها التي اختطتها مواسم أصيلة.

وقال بن عيسى إن الثقافة شكلت دائما البوابة التي تقتحم منها أصيلة مواضيع الراهن السياسي والاقتصادي والجيو - ستراتيجي، مشيرا إلى الحرص الدائم على إسماع صوت المثقفين والمبدعين والأدباء، لما يتميز به صوتهم من نبرة ناقلة لنبض الشعوب والثقافات والحضارات التي يتحدثون باسمها.

وأشار بن عيسى إلى أن المنحى العام الذي بات مؤثرا في العالم، يتجه نحو التقليص من دور الدبلوماسية التقليدية، دون الاستغناء عنها كلية، ولذلك فإن ضخها بجرعات قوية من الثقافة اختيار لا محيد عنه، مشيرا إلى الفاعلين الجدد، المتمثلين في قوى المجتمع المدني، التي أصبحت تمارس تأثيرا على صانعي القرار الدبلوماسي وراسمي السياسة الخارجية، ذلك أن تلك القوى أدركت المفعول السحري للثقافة بمختلف تعبيراتها وقدرتها على اقتحام جدران اللاتفاهم.

وأشاد بن عيسى بالنهج الثقافي التي تسلكه دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي ضيف شرف الدورة 32 لموسم أصيلة الثقافي الدولي، باعتبارها تعتني بتراثها وتظهره في أبهى صورة، ليتحول إلى سفيرها المتجول فوق العادة لدى الشعوب والمجتمعات الأخرى. وقال، في هذا الصدد، إن الإمارات جعلت الثقافة عملتها الدبلوماسية الصعبة.

ومن جهته، أعرب الشيخ تيديان غاديو، وزير الخارجية السنغالي السابق، عن سروره لوجود للمرة العاشرة في منتدى أصيلة، المدينة التي شكلت في الماضي البعيد ملتقى تمازجت فيه الحضارات العربية والرومانية والفينيقية والبرتغالية والإسبانية. وهي المكان الذي عشقه الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور، الذي قال عنه إنه تقابل مع السياسة بالصدفة، بيد أنه تحول إلى داعية لإعمال النزعة الإنسانية في العلاقات بين الشعوب والحضارات، حتى لا تتكرر مآسي الحروب، وأنماط الاستغلال التي عرفها القرن العشرون.

واعتبر غاديو، الرئيس سنغور، الأب المؤسس للمزج بين الدبلوماسية والثقافة، وهو أحد قادة القرن العشرين الذين يمثلون الربط والجسر بين الثقافة والدبلوماسية، وفي هذا السياق، ظل سنغور، منذ استقلال بلاده عام 1960، إلى تنحيه عن الحكم عام 1980، يشدد على أن الفرصة الوحيدة للإنسانية تكمن في عودتها إلى جذورها الأصلية المشتركة، وهي ليست شيئا آخر غير الثقافة، ما جعله يطلق قولته المشهورة: «الثقافة تأتي في مبتدأ ومنتهى التنمية».

وسجل غاديو، وهو يستعرض بعض الأفكار التي أسهم بها في موضوع الندوة، أن العالم المعاصر مريض وخائف «وبالتالي فهو يسبب لنا الخوف كذلك»، مشيرا إلى الحملات الإعلامية ضد أماكن العبادة التي يرتادها المسلمون في بعض الدول الغربية، إضافة إلى الضجة التي أثارها الحجاب والبرقع، مشيرا إلى أن حامل لحية أو اسم مثل اسمه «الشيخ تيديان» كاف وحده لأن يثير حالة الاستنفار في أجهزة الكومبيوتر بالمطارات الغربية.

وأضاف غاديو قائلا: «أمام هذا الوضع، لا بد، كما قال أولا كوفي أنان، ثم تبعه الرئيس بارك أوباما، من الانتصار على الخوف، وفتح آفاق الحوار بين الشعوب والأوطان والثقافات والديانات، مما يوجب التوفيق بين الدبلوماسية والثقافة».

وتناوب على الحديث آخرون، بينهم نبيل فهمي، سفير مصر السابق لدى أميركا، الذي قارن بين نمطين من الدبلوماسية العامة والثقافية، وهما ممارستان تحتويان على كثير من السمات المشتركة، وإن كانت الأهداف والنطاق الزمني لكل منهما مختلفا، مختتما بالقول إن الانخراط فيهما معا أمر مطلوب، تفرضه العولمة.