غازي القصيبي.. عاش كاتبا ومات كاتبا

آخر كتبه صدر يوم وفاته

TT

لم يمض صباح الأمس في السعودية كبقية الأيام. بل كان ذلك الصباح لوحة سريالية ولدت فيها آخر أعمال الدكتور غازي القصيبي «قصة الزهايمر»، وقبل أن ينتهي الصباح غادرت روحه بعد معاناة طويلة مع المرض.

وإذ يقول المتنبي:

وتركك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر فإن كان من رجل تنطبق عليه هذه المقولة في المشهد السعودي الحاضر فإن الراحل الدكتور غازي القصيبي، الذي وافته المنية في العاصمة السعودية الرياض أمس، هو ذلك الرجل، فسبعون عاما ما بين ربيع مارس «آذار» 1940 وصيف أغسطس «آب» 2010 قضاها في حياة مثيرة للجدل وزاخرة بالعطاء أكاديميا وأدبيا وسياسيا.

وإضافة إلى تقلده منصب الوزير لأربع مرات والسفارة لمرتين فقد ترك إنتاجا أدبيا في الشعر والرواية والفكر أثرى المشهد الثقافي السعودي والعربي وحفر اسمه ضمن أبرز وجوه هذا المشهد. وسيرته الإبداعية المشاكسة لم تتوقف حتى صباح اليوم الذي رحل فيه حيث كان الإعلان عن قصة جديدة ألفها، وكان من المفترض أن يصدرها خلال الأسبوع الجاري وتحمل اسم «الزهايمر».

إنها سيرة لقلم استمر يبدع ويؤلف حتى الرمق الأخير من حياته بل إن أيامه الأخيرة في مشوار السبعين كان فيها أكثر وهجا فقد عاد إلى الساحة من خلال قرار أصدره وزير الإعلام السعودي الدكتور عبد العزيز خوجه بفسح جميع كتب غازي القصيبي الممنوعة من التداول في السعودية. وهو الأمر الذي أثار حينها جدلية منع الكتب في السعودية وتساؤلات المثقفين عن بقية الكتب المهاجرة. إلا أن القصيبي لم ينتظر قرارات بفسح كتبه ليعلق عليها مسيرته الإبداعية فاستمر في رحلة الكتابة والتأليف حتى الرمق مصدرا في عام وفاته الذي شهد تدهور صحته وقضاء معظمه على السرير ثلاثة كتب.

ومع كل مؤلف يطرح في المكتبات كان القصيبي يحمل إلى الساحة الثقافية ضجيجا جديدا يبعثها من سباتها بين المحتفين بكتبه والشانئين عليها ليستمر الجدل البيزنطي حول إصداراته وتستمر الطبعات المتتالية في الصدور ويستعد الرقيب ليصدر قرار حظر آخر، بينما يعود القصيبي إلى عمله الوزاري متمثلا قول المتنبي:

* أنام ملء جفوني عن شواردها - ويسهر الخلق جراها ويختصم

* فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس.

* وكان آخر هذه الكتب هو كتاب «الوزير المرافق» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والذي يروي فيه القصيبي قصصا ومواقف لشخصيات عالمية قام بمرافقتها. ويقدم القصيبي للكتاب بقوله: «كانت هناك بين الحين والآخر مهام تأخذ الوزير من دوامة العمل الروتيني اليومي. وكان أبرز هذه المهام مرافقة الملك وولي العهد في الزيارات الرسمية، ومرافقة رؤساء الدول الذين يزورون المملكة والمساهمة في المؤتمرات المختلفة. وفي هذا الكتاب فصول تحمل انطباعاتي الشخصية عن عدد من رؤساء الدول والحكومات، وقد حرصت على أن تبقى الانطباعات كما دونتها أول مرة منذ سنين طويلة».

ويأتي كتاب «الوزير المرافق» ختاما لسيرة إبداعية مشاكسة ومثيرة في الرواية والشعر والفكر. وكان من مؤلفاته في الرواية: شقة الحرية، وسبعة، والعصفورية، وسعادة السفير، ودنسكو، ورجل جاء وذهب، وحكاية حب، وسلمى، وهما، والعودة سائحا إلى كاليفورنيا، والجنية.

وفي الشعر: صوت من الخليج، الأشج، اللون عن الأوراد، أشعار من جزائر اللؤلؤ، سحيم، وللشهداء، وسلمى، ويا فدى ناظريك، وقراءة في وجه لندن، ومعركة بلا راية، وحديقة الغروب.

وفي الفكر والسيرة الذاتية: التنمية الأسئلة الكبرى، ويطرح فيه مجموعة من التساؤلات المتعلقة بعملية التنمية في السعودية، والغزو الثقافي، وأميركا والسعودية، ويتحدث من خلاله عن الحملة الإعلامية الأميركية التي وجهت ضد السعودية بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وثورة في السنة النبوية، وحياة في الإدارة، والمواسم، ويتحدث فيه عن طفولته ومعاناته مع اليتم، والأسطورة، ويتحدث فيه عن أميرة ويلز ديانا سبنسر ومواقفه الشخصية معها، واستراحة الخميس، وهي مجموعة من المقالات الصحافية، والعولمة والهوية الوطنية، وهو كتاب يجمع لمحاضرات ألقاها عن العولمة، والخليج يتحدث شعرا ونثرا، وفيه جمع سير أعلام الخليج من الأدباء، ومع ناجي.. ومعها، وصوت من الخليج، وعن قبيلتي أحدثكم، وهو كتاب يروي تاريخ الشعر العربي والمفاصل التجديدية في ذلك التاريخ.

كانت أولى رواياته شقة الحرية التي صدرت عام 1994 وتحكي واقع الشباب العربي خلال الفترة 1948 – 1967. حيث يعيش أبطال الرواية (التي حولت إلى عمل تلفزيوني) في شقة في مدينة القاهرة وسط أجواء فكرية وسياسية عاصفة بتوجهات فكرية مختلفة لكل منهم وتكون لهم بطولاتهم الخاصة مع تلك الأحداث. وكانت الرواية ممنوعة في السعودية إلى وقت قريب.

وأما روايته دنسكو فقد كتبها بعد عدم فوزه بمنصب مدير منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم «اليونيسكو» عام 1999 وتتناول قصصا لمرشحين عدة للمنظمة من قارات مختلفة حيث وعد القصيبي أثناء ترشحه للمنصب بكتابة رواية إذا لم يفز، وهو الأمر الذي أوفى به.

في حين أن روايته سبعة التي صدرت عام 2003 فهي ترسم صورة ساخرة للواقع العربي ممثلة في سبع شخصيات يختلفون في أفكارهم وأعمالهم ويتشابهون في الركض خلف سيدة واحدة تعمل مقدمة لبرنامج تلفزيوني حيث يقعون ضحية لها في نهاية المطاف. حيث جاء في نهاية الرواية «أوضح تقرير الطبيب الشرعي أن الرجال السبعة ماتوا غرقا، وقد تبين من التحليل أنهم تعاطوا كميات كبيرة من المخدرات والكحول. أما المرأة، التي وجدت على الشاطئ عارية، فلم يتضح للطبيب الشرعي بعد سبب موتها، ولم يعثر في دمها على أي آثار لمخدرات أو كحول، ولم تظهر بجسمها أي إصابات. كما ظهر من الفحص أنها عذراء...».

روايته العصفورية الصادرة عام 1996 جاءت مرة أخرى لرسم مشهد ساخر للواقع العربي ولكن هذه المرة على لسان بروفسور يرقد في مشفى ويقص على طبيبه بطولات وحكايات ساخرة تخفي في طياتها هزلا فكريا بصيغة كوميدية تقمص خلالها القصيبي شخصية البروفسور ليشرح الواقع العربي على طريقة «خذوا الحكمة من أفواه المجانين».

وتبلغ السخرية من الواقع العربي مداها في رواية أبو شلاخ البرمائي الصادرة عام 2002 حيث يسخر القصيبي من الناس والزعماء في العالم العربي الذين يدعون امتلاك القدرات الخارقة ومعرفة كل شيء. تقع الرواية (التي حولت إلى عمل تلفزيوني) في سبعة فصول هي: بدايات النبوغ، مرحلة الصمود والتصدي، وديعة روزفلت، إمبراطورية «أم سبعة» التجارية، نساوين في حياتي، رحلتي الغريبة حول العالم، الجوانب الكثيرة للقمر. وتطوف الرواية حول العالم في أزمنة مختلفة بقالب فكاهي ساخر حيث يصبح العربي بطل الرواية هو المستشار الأول للزعماء والسياسيين وصاحب القدرة على الاتصال بالجن، وهو من اخترع الهاتف ومد أنابيب النفط وغيرها من البطولات الوهمية.

أما روايته الجنية الصادرة عام 2006 فهي أشبه ما تكون ببحث علمي عن الجن ذيله القصيبي بعشرات المراجع ورفض أن يطلق عليها مسمى رواية مكتفيا بوصفها بالحكاية. إلا أنها في الوقت ذاته أنموذج معاصر لحكايات ألف ليلة وليلة، حيث يقع بطل الرواية «ض.ض.ض» في حب امرأة من الجن ويدخل معها إلى عالم الجن ليكتشف هذا العالم المجهول.

وبقي أن نعود إلى قصة «الزهايمر» التي ولدت مع وفاته لتختم رحلة القصيبي مع الكتاب ومن المنتظر أن تصدر هذا الأسبوع تدور حول شخصية (يعقوب العريان) الذي ينسى اسم زجاجة العطر التي اعتاد إهداءها لزوجته التي تصغره بربع قرن؛ ليدرك إصابته بمرض الزهايمر، ويقرر السفر متذرعا برحلة عمل بينما كانت وجهته إلى طبيب متخصص في معالجة الزهايمر. وجاءت القصة في شكل رسائل يبعث بها السيد العريان إلى زوجته التي لا تتسلمها إلا بعد وفاته بنوبة قلبية مفاجئة.

سيرته الإبداعية لم تمر بسلام فكانت حافلة بالمصادمات مع التيار الديني في السعودية. وكانت أشد هذه المصادمات حين أصدر عام 1970 ديوان «معركة بلا راية» الذي حرك وفودا من أتباع التيار الديني المحافظ (معترضين على صدوره) إلى الملك فيصل لمنع تداول الديوان، وهو الأمر الذي استدعى تشكيل لجنة وزارية لدراسة الديوان ومحاكمته، وقد انتهت اللجنة المشكلة من وزير العدل ووزير الأوقاف ووزير المعارف إلى خلو الديوان من أي شيء يستدعي المنع. ويسجل القصيبي هنا موقفا شجاعا للملك عبد الله بن عبد العزيز حيث يقول: «سمعت من أحد المقربين إليه أنه اتخذ خلال الأزمة موقفا نبيلا، وحث الملك فيصل على عدم الاستجابة إلى مطالب الغاضبين المتشنجة».

وفي التسعينات خاض القصيبي في رحلته الأدبية معركة المطويات والكاسيت مع الصحويين وأبرزهم كان ناصر العمر وسلمان العودة وعائض القرني وحينها أصدر القصيبي كتابا بعنوان «حتى لا تكون فتنة» تبرأ فيها من اتهامات الصحويين له بكونه علمانيا، وهي تهمة تعبر عن مدى الخلاف الذي وصل له القصيبي مع مناوئيه في تلك المرحلة، كما قدم فيها نقدا للخطاب الصحوي ونصائح لرموزه.

وحتى مع رحيله وقفت بعض المواقع الإلكترونية المتشددة كالمستبشر بوفاته.

وعودة على مؤلفات غازي القصيبي فيعد كتابه «حياة في الإدارة» الذي أصدره عام 1998 دون فيه سيرته في العمل الأكاديمي والسياسي والدبلوماسي واحدا من أجمل كتب السيرة الذاتية الملهمة للأجيال. حيث يسرد فيه القصيبي قصة حياته في الإدارة ما بين كلية الآداب في جامعة الملك سعود والسكك الحديدية ووزارة الصناعة والكهرباء ووزارة الصحة وسفارة البحرين. الكتاب الملهم الحافل بقصص النجاح والمثابرة يقدم فن الإدارة بأسلوب مبتكر يبتعد عن التنظير والنقاشات اللفظية إلى قصص واقعية لرجل سعودي يعمل في مؤسسات سعودية ويقدم في ثنايا تجاربه فوائد إدارية استخرجها القصيبي من معاركه مع البيروقراطية. القصيبي الذي سئل ذات مرة ما إذا كان يفضل أن يطلق عليه الشاعر أم الروائي فاختار الشاعر، يقول أحد النقاد عن شعره: «أخط اسم غازي القصيبي، وأشعر أن قلبي يقول ها أنت أمام مدخل مدينة المجددين، وأطلقت عليه عندما أصدر ديوانه (أشعار من جزائر اللؤلؤ) الدم الجديد، وكان فعلا دما جديدا سمعناه يهتف بالشعر في الستينات، ولم يقف، بل سار مصعدا، يجدد في أسلوب شعره، وألفاظه ومواضيعه».

وأما رواياته فقد كانت تشريحا للحالة العربية بأسلوب سردي ساخر بلغ مداه في روايتي العصفورية وسبعة، وهي من الروايات التي اعتبرها النقاد أعظم أعماله، إضافة إلى شقة الحرية. وفكره الذي صادمه الكثيرون جاء سابقا لعصره إلى حد انتظر معه المناوئون له ثلاثين عاما ليعترفوا له بالفضل والرأي وهي ذات اللحظة التي كان عليهم فيها أن يرددوا عبارات العزاء في رحيله.

وإذ يقول الشاعر السوري محمد الماغوط «ما من موهبة تمر من دون عقاب» ويرد عليه القصيبي بقوله «وما من موقف يمر بلا ثمن» فقد دفع القصيبي الثمن في غير ذات مرة وكان ذلك الثمن منصبا وزاريا وآخر دبلوماسيا.

وتقف قصيدته «حديقة الغروب» كوصية يتخلص فيها من أعباء سبعين عاما صاخبة. ولا يطلب من الحاضرين حوله سوى أن يرددوا:

* وإن مضيت فقولي: لم يكن بطلا - لكنه لم يقبل جبهة العار