رمضان النجف خالٍ من الناس صباحا.. وحركة متواصلة بعد الإفطار

الحياة تعود إلى المدينة ليلا

يبدأ نشاط أهالي النجف بعد الافطار وتسهر المدينة حتى صلاة الفجر («الشرق الأوسط»)
TT

تختلف مدينة النجف عن باقي المدن العراقية حيث يبدو فيها شهر رمضان في النهار كأنها مدينة خالية من الناس تغلق المحال التجارية وتقل حركة المركبات في الشوارع، بينما يبدأ نشاط المدينة بعد الإفطار حيث تزدحم الشوارع والأزقة الضيقة بالناس وكأن الحياة عادت إلى المدينة من جديد. البعض من الأهالي يحيون ليالي رمضان حتى صلاة الفجر في مرقد الإمام علي بن أبي طالب أو بجواره. وفي شهر رمضان تكثر المجالس الأدبية والتزاور بين العوائل النجفية، بينما تكتظ الأسواق بالمتبضعين الذين يقبلون على شراء الحلويات والمرطبات والعصائر التي بدت وكأنها مرتبطة بشهر رمضان.

تعد مدينة النجف (160 كم جنوب العاصمة بغداد) من المدن المقدسة في العراق، وتحتضن مرقد الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين، بالإضافة إلى وجود المرجعية الدينية فيها، يتوافد عليها ملايين الزائرين سنويا من داخل وخارج العراق.

وتقول أم حيدر (47 سنة) لـ«الشرق الأوسط» إن «أهالي النجف يستعدون لشهر رمضان قبل عدة أيام، حيث نقوم بالتسوق وشراء مواد يكثر أكلها في شهر رمضان». وتضيف: «لدينا عادات وتقاليد لا بد من عملها في أول يوم من رمضان، وهي رش ماء الورد على رؤوس العائلة بعد الإفطار، وتوزيع بعض الأكلات على الجيران، وقراءة القرآن قبل أذان المغرب، والحرص على حضور جميع العائلة على الإفطار، وغيرها من التقاليد التي لا يمكننا العزوف عنها». مؤكدة: «رغم صعوبة الظروف التي يعيشها العراق فإن التزاور بين الأقرباء والأصدقاء هو أحد طقوسنا ولا يمكن التخلي عنه، بالإضافة إلى زيارة مرقد الإمام علي بعد الإفطار، حيث نقضي وقتا في قراءة القرآن الكريم والصلاة».

أما حسن حميد (71 سنة) فأكد لـ«الشرق الأوسط» أن «لدى النجفيين أيضا عادات وممارسات يستخدمها المواطنون في شهر رمضان، منها أن يبدأ صاحب الطبل والمزمار حيث يقرع بها رؤوس النائمين قبل وقت السحور بساعة، كما يقوم أطفال الأحياء بالوقوف أمام المنازل ويرددون: (ماجينه يا ماجينه، الله يخلي فلان). عندها يخرج صاحب المنزل ويوزع عليهم بعض الحلوى والمشروبات الغازية»، مضيفا: «كما يقوم الشباب بمسابقات بين الأحياء في لعبة المحبيس، وهي مشهورة لدى العراقيين، وتبدأ منذ أول يوم من شهر رمضان إلى نهايته».

أما الباحث التاريخي فراس الكرباسي فيقول لـ«الشرق الأوسط» حول حركة النجفيين في شهر رمضان: «تبدأ الحركة بعد تناول طعام الإفطار في اتجاهات كثيرة، وفي مقدمتها زيارة مرقد الإمام علي، أما الاتجاه الآخر فهو حضور المجالس، ولمجالس النجف ميزة خاصة، وبخاصة مجالس العلماء، إذ تثار فيها المسائل الفقهية والنكات الأدبية والتقفية الشعرية، أما مجالس الوجهاء فيتم فيها تداول الحوادث التاريخية والمآثر القديمة، وهي لا تخلو من الأدب وغيره، وكثيرا ما يتم التلاقح بين مجالس العلماء والوجهاء من تبادل الزيارات».

وأشار إلى أن «النجف في شهر رمضان تنام في النهار وتنتعش في الليل حتى ساعات الفجر، فتصبح فيها الحركة مستمرة سواء على صعيد العمل أو على صعيد العبادة».

وأضاف الكرباسي أن «هنالك عادات مميزة في شهر رمضان، كظاهرة الولائم العامة، وبخاصة دعوة الفقراء إلى الإفطار في ليالي الجُمَع والمناسبات الدينية، كما لا تقام الفواتح على الموتى في النهار، احتراما للشهر الفضيل وقدسيته، فإن الفواتح تقام جميعها بعد الإفطار، وقد خصت النجف بهذا الجانب».

وبخصوص المجالس الأدبية في رمضان يقول الكرباسي: «هناك بعض المنازل تعقد فيها الأمسيات الثقافية والأدبية الجميلة، حيث تلقى فيها المحاضرات المتنوعة في التراث والثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة، يحاضر فيها أشخاص أكفاء، وكل في مجال اختصاصه، وتجري المناقشات والمداخلات بعد انتهاء المحاضر من محاضرته، وكل يدلي بدلوه إلى ساعات متأخرة من الليل».

مضيفا: «تشتهر النجف بظاهرة الزيارات المتبادلة بين الناس في شهر رمضان، وهناك منازل لوجهاء القوم والمسؤولين، تفتح أبوابها لتستقبل الوافدين إليها من أبناء المحافظة، يتسامرون في ما بينهم، ويتناولون الفواكه والحلويات ويحتسون الشاي والقهوة بعد أن يفرغ الخطيب من قراءة العزاء الحسيني ويتخللها الوعظ والإرشاد».

إلى ذلك قال وهاب شريف، شاعر وأديب، حول أمسيات أهالي النجف لـ«الشرق الأوسط»: «غالبا ما تكون الأمسيات عن الأدب والشعر ومؤسسات المجتمع المدني ودورها في بناء العراق الجديد، إضافة إلى مناقشة أمور كثيرة ومنها السياسية، فيستضيفون شخصيات من مجالس المحافظات والمجالس المحلية الاستشارية وقيادات دينية وحزبية».

وأشار إلى أن «ما يميز هذه الأمسيات أنها بعيدة عن التحزب والطائفية والعنصرية، وهدفها الأول والأخير وحدة الشعب العراقي والعراق، وتستمر إلى ساعات متأخرة من الليل أحيانا إذا كانت المحاضرة تستوجب التعقيب والملاحظات والإضافات والاعتراضات، خصوصا إذا كانت تاريخية أو عقائدية».

وأوضح شريف أن «أمسيات الشعر والقصة غالبا ما تنتهي بانتهاء الشعراء من إلقاء إبداعاتهم التي غالبا ما تنحصر في قصائد الشعر العمودي الذي اشتهرت به مدينة النجف».

وأضاف الشاعر وهاب شريف أن «هناك أشياء جميلة بدأت تظهر في شهر رمضان في السنوات الأخيرة، وهي أن المغتربين العراقيين خارج البلاد، غالبا ما يفاجئون هذه الأمسيات الرمضانية بحضورهم، حيث يأتون إلى أهلهم وذويهم لقضاء شهر رمضان والعيد بين أهاليهم ومحبيهم، وتبدأ الحكايات الجميلة، وبعض الذكريات مع أحاديث لا تقل جمالا عن غربتهم والبلدان التي يمكثون فيها، فيكون الحديث عن تجربة العراق في بلدان الغربة».

وقد عرف عن النجفيات إجادتهن لأكلات ينفردن بها عن مدن العراق، ومن أبرزها طبخة الفسنجون، وتقول أم محمد لـ«الشرق الأوسط» إن «هنالك الكثير من الطبخات النجفية، ومنها طبخة الفسنجون، وهي عبارة عن وجبة طعام من الدجاج المحشو أو المطبوخ مع المرق والمحشو بالفستق وحب الرمان».

وتضيف أم محمد: «أما الطبخة الأخرى فهي طبخة الطرشانة، وهي عبارة عن مشمش مجفف جدا وتضاف إليه بعض المواد الأخرى».

ويقول حسن سعدون لـ«الشرق الأوسط» إن «مدينة النجف تشتهر بصناعة الحلويات، ومنها دهينة أبو علي التي أصبحت ماركة لدى الكثير من المحال في المدينة القديمة في النجف، حتى إن بعض المحال فتحت في أغلب المحافظات العراقية لبيعها، ويكثر الطلب عليها في شهر رمضان». مضيفا: «أيضا توجد حلويات السمسمية والزلابية وزنود الست، وحلاوة الحليب، والساهون النجفي».

وأضاف سعدون: «النجف ليست مشهورة بصناعة الحلويات فقط، فلدينا أيضا الطرشي النجفي الذي يصبح من المواد المفضلة في شهر رمضان، ليس في المحافظة فحسب، بل في كل العراق. ويصنع على أنواع، منه المدبس، وحامض حلو، المطعم بحب الرمان».