أئمة الحرم المكي في رمضان.. تفاصيل خلف كواليس الأصوات الخاشعة

يتفقون في الحفظ والتلاوة الخاشعة وتجنب وسائل الإعلام

تفرض مهمة إمامة الحرم على القائمين بها خلال شهر رمضان، التفرغ للبقاء قريبا من جنبات المنبر المكي والمراجعة الدائمة للقرآن الكريم («الشرق الأوسط»)
TT

مكة هي مهد الإسلام والبقعة الأكثر قدسية لدى المسلمين على امتداد خريطة البسيطة. إليها تتجه أفئدة الناس وتهفو قلوبهم، وفي شهر رمضان تزداد هذه البقعة المباركة إشراقا ورونقا وإليها تشد رحال الملايين من الزوار والمعتمرين والمعتكفين. ومما يزيد روحانية الليالي الرمضانية في مكة المكرمة تلك الأصوات الرخيمة المرتلة لآيات القرآن الكريم في صلاة التهجد والتراويح طوال ليالي الشهر الكريم.

وحيث يتناوب أربعة من المقرئين على إمامة المصلين في صلاة التراويح والتهجد طوال ليالي شهر رمضان، تصبح هذه الأصوات ذات التلاوة الخاشعة منفذا لاستكشاف روحانية المكان والزمان في هذه البقعة الطاهرة. وفي حين تتعلق أفئدة مئات الملايين من المسلمين حول العالم بالقرآن حين يستمعون إليه من أئمة الحرم وتصبح أشرطة التسجيلات الخاصة بهم خير هدية يعود بها زائر الحرم الشريف، فإن قلة هم الذين يدركون أسرار وكواليس حياة أئمة الحرم المكي خلال الشهر الفضيل.

وفي حين يشترك أئمة الحرم جميعهم في الحفظ المتقن للقرآن الكريم والتلاوة العذبة له، فإنهم أيضا متفقون في بعدهم عن الأضواء ووسائل الإعلام ومنافذ الظهور، مكتفين بأصواتهم التي تشق سكون الليل بروحانية وخشوع. إنها سيريالية مشهد لأهم شخصيات الشهر الكريم يحظون بالشهرة والحضور من دون أضواء، فهم الأكثر وجودا عبر القنوات الفضائية التي تبث صلاة التراويح والتهجد من الحرم المكي والتسجيلات التي تكاد توجد في كل بيت وفي الوقت ذاته هم من أندر من قد تجد له تصريحا في صحيفة أو تلفاز أو إذاعة.

إلا أن العارفين والقريبين من تفاصيل الحياة اليومية لأئمة الحرم المكي خلال شهر رمضان يذكرون أن مهمة إمامة الحرم خلال الشهر الكريم تفرض على القائمين بها تقليص أنشطتهم الحياتية والاجتماعية خلال الشهر الكريم والتفرغ للبقاء قريبا من جنبات المنبر المكي والمراجعة الدائمة للقرآن الكريم والاستعداد بشكل يومي ومكثف لمهمة إمامة الناس. ويقوم أئمة الحرم حتى أقدمهم حضورا وأكثرهم تمرسا بالمراجعة اليومية للمقاطع التي سيتلونها من كتاب الله الكريم. إضافة إلى المراجعة المستمرة خلال أيام السنة كاملة. ومع ذلك، يظل هاجس الوقوع في خطأ ما أثناء التلاوة، وخاصة في المواضع القرآنية المتشابهة وهو الأمر الذي يلحظه المصلون طوال ليالي شهر رمضان، حيث لا يسلم أئمة الحرم المكي من الوقوع في أخطاء أثناء التلاوة. وما لا يعرفه الكثيرون هو وجود شخص مكلف من قبل بالصلاة خلف إمام الحرم مباشرة مهمته التصحيح للإمام القارئ في حال الوقوع في الخطأ، ويعرف هذا الشخص بمتانة حفظه وسرعة بديهته وتجاوبه. ومن الأشخاص المعروفين بالرد والتصحيح لأئمة الحرم والذي يلاحظ وجوده الدائم خلفهم هو الشيخ صالح بن حميد، رئيس المجلس الأعلى للقضاء وإمام وخطيب الحرم المكي أيضا. ويشتهر الشيخ بن حميد بمتانة حفظه التي تمكنه من التصحيح لأئمة الحرم في مواضع يصفها حفظة القرآن الكريم بالصعبة والتي تزيد فيها احتمالية الخطأ والخلط مع مواضع أخرى.

ولعل من الأمور التي تخفى على كثير من زوار الحرم المكي خلال الشهر الكريم وجود غرف خاصة بأئمة الحرم المكي مبنية داخل المسجد وتسمى بالخلوات وتوجد بجانب الأبواب الرئيسية للحرم المكي مثل باب الملك عبد العزيز وباب العمرة. وفي هذه الغرف، يعتكف أئمة الحرم ويقضون الكثير من أوقاتهم خلال شهر رمضان. وهذه الخلوات عبارة عن غرف مجهزة وتخصص خلوة واحدة لأئمة الحرم القدماء بينما قد يشترك أكثر من إمام في خلوة واحدة. ويقول المقربون من أئمة الحرم المكي إن وجود إمام الحرم في هذه الخلوات ليس أمر لازما، حيث تزداد أهميتها فقط خلال العشر الأواخر من أيام الشهر، حيث يحرصون على الاعتكاف وتصبح مهمة إمامة الناس يومية على أئمة الحرم المكي الأربعة.

وبجانب هذه الخلوات، هناك غرف خاصة بأئمة الحرم المكي في قصر الصفا الملكي المجاور للحرم. وفي هذه الأماكن، قد يقضي بعض منهم وقته في الحفظ والمراجعة وانتظار الصلوات.

ويعد أئمة الحرم المكي من الشخصيات التي يحرص زوار الحرم المكي الشريف على الالتقاء بهم وخاصة الوفود التي تأتي من خارج المملكة. وتتم لقاءات الوفود بأئمة الحرم من خلال الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين التي تتولى عملية التنسيق بين هذه الوفود والأئمة. وتتنوع هذه الشخصيات بين رؤساء دول ومسؤولين حكوميين وشيوخ ودعاة ومفكرين وغيرهم.

ولأئمة الحرم المكي لقاء سنوي مع خادم الحرمين الشريفين يعقد في قصر الصفا الملكي، وذلك في آخر أيام الشهر الفضيل، حيث يتناولون الإفطار على مائدة خادم الحرمين مع جمع من أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ والمسؤولين.

ومن المعلوم أن أئمة الحرم المكي يحظون بالتقدير والاحترام الواسع من قبل المسلمين في أنحاء الأرض، ويحرص المصلون في الحرم المكي على السلام عليهم في حال دخولهم أو خروجهم، حيث يصل الاعتقاد لدى البعض بحصول البركة بمجرد السلام عليهم، ويتحول الأمر في كثير من الأحيان إلى مضايقة تعطل حركتهم، وهو الأمر الذي يستدعي وجود مرافقين من قوات الأمن تصطحب أئمة الحرم حال دخولهم وخروجهم. ويزداد عدد المرافقين في عملية الخروج، حيث يصل في بعض الأحيان إلى عشرة مرافقين من رجال الأمن، وذلك لحماية الأئمة من المضايقات التي يحدثها تدافع المصلين باتجاههم.

وإلى جانب مهمة الإمامة، يضطلع كل إمام بمهمة الحضور في وقت مبكر قبل إقامة الصلاة وتفادي الزحام والوصول إلى المحراب، حيث يحضر كل إمام قبل إقامة الصلاة الموكلة إليه بعشر دقائق تقريبا. ولا يشترط وجود أئمة الحرم دفعة واحدة في كل صلاة، بل قد يوجد الإمام الموكلة إليه صلاة التراويح أو التهجد بمفرده ثم يلتحق به في وقت لاحق الإمام المكلف إكمال بقية الصلاة.

ورغم اعتبارهم مقرئين في المقام الأول وليسوا مفتين، يواجه أئمة الحرم سيلا من الأسئلة الشرعية والفتاوى من قبل المصلين عقب أداء الصلوات، ومن المعروف أن أئمة الحرم يعتبرون من أصحاب الخلفية العلمية الواسعة.

وهذا العام يتناوب أربعة من المقرئين على إمامة الحرم المكي في صلاة التراويح والتهجد حسب الترتيب التالي: يؤم المصلين في ليالي الوتر في صلاة التراويح في الخمس الأول فضيلة الشيخ عبد الله الجهنى، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس في الخمس الأخيرة والشفع والوتر. أما ليالي الشفع من شهر رمضان المبارك، فيؤم المصلين فضيلة الشيخ سعود الشريم في الخمس الأول وفضيلة الشيخ ماهر المعيقلي في الخمس الأخيرة والشفع والوتر. وسيؤم المصلين في العشر الأواخر من شهر رمضان في صلاة التراويح فضيلة الشيخ عبد الله الجهني وفضيلة الشيخ ماهر المعيقلي، في حين سيؤم المصلين في صلاة التهجد فضيلة الشيخ سعود الشريم في التسليمات الثلاث الأول وفضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس في التسليمتين الأخيرة مع الشفع والوتر.