مسجد غراوند زيرو: قضية ساخنة بحسابات سياسية

حمى الحديث عن المسجد تجتاح سكان نيويورك

TT

مساء أحد الأيام القريبة، في الشوارع القريبة من منطقة غراوند زيرو، سارع المترجلون للعودة إلى منازلهم، وانهمكت مجموعة من السائحين الفرنسيين في التقاط الصور، في الوقت الذي أصدر أحد المشردين ضجيجا عاليا باستخدام علبة معدنية بحوزته، بينما انهمكت سيدة غاضبة في محادثة عبر هاتف جوال، وعكف علي محمد على تقديم ساندويتشات فلافل لعملائه.

تقف عربة الطعام الخاصة بمحمد في منتصف المسافة بين موقع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية وموقع مشروع المركز الإسلامي الذي تحول إلى هدف رئيسي لهجمات المحافظين الوطنيين، الذين بعد سنوات من تحقيرهم لنيويورك باعتبارها معقل الحراك الليبرالي، يهبون الآن للدفاع عن المدينة ضد مسجد من المقرر إنشاؤه على بعد بنايتين من منطقة غراوند زيرو.

من ناحيته، أشار نيوت غينغريتش، من بين أمور أخرى، إلى أن الطائفة المسلمة لا ينبغي أن تبني هذا المركز المقترح لأن «النازيين ليس من حقهم رفع علامة لهم بالقرب من متحف الهولوكوست في واشنطن». واقتحمت سارة بالين أيضا الجدال، منحازة إلى صف معارضي ما بات يطلق عليه «مسجد غراوند زيرو»، مشيرة إلى أن الألم الذي سيخلفه ذلك الأمر «شديد للغاية».

أما محمد (56 عاما) فمثلما الحال مع الكثير من أبناء نيويورك الآخرين، وصل إلى نقطة التشبع. وقال: «هؤلاء الأشخاص لا صلة لهم بنيويورك ولا يأبهون لها. إنهم يحاولون إثارة حملة دعاية فحسب. الواضح أن هذه النقطة يتفق عليها مختلف الأطياف السياسية داخل نيويورك».

في هذا الصدد، قال بيتر كينغ، عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري والذي تولى قيادة المعارضة المحلية لمشروع «بارك 15»، وهو مركز إسلامي من 13 طابقا من المقرر أن يتضمن مسجدا به إمام وقاعة محاضرات تسع 500 مقعد وحمام سباحة وغرف اجتماعات، كان حديث غينغريتش عن النازية وما إلى غير ذلك يخلو من أي معنى حقيقي. إلا أن كينغ يرى أن بناء المركز سيؤذي مشاعر أسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر والناجين منها، لكنه استطرد بأن بعض أقوى الأصوات المعارضة لبناء المركز تخطت الحدود في حديثها، وحتى وقت قريب، لم تبد أي منها اهتماما بنيويورك على الإطلاق.

وقال كينغ، مقتبسا بنبرة ساخرة عبارة بالين الشهيرة «أولا، هذه هي أميركا الحقيقية»، مضيفا أن «ذات الأشخاص الذين خلقوا مسافة بينهم وبين شؤون نيويورك فجأة أصبحوا مهتمين بها».

على الطرف المقابل، أبدى جيرولد نادلر، عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي وأحد أقوى أنصار حق الطائفة المسلمة في بناء المركز، اتفاقه التام مع رأي كينغ.

ووصف تعليقات غينغريتش وجمهوريين آخرين من النادر أن يعربوا عن تأييدهم للمدينة، بأنها «مثيرة للغثيان». واستطرد بأن «الأمر لا يعدو محاولة لاستغلال قضية حساسة لأغراض سياسية خالصة، واستغلال أناس من الواضح أنهم لا يأبهون بهم».

داخل نيويورك، لا تزال تساؤلات عملية مثارة حول ما إذا كان منظمة مشروع المركز الإسلامي المفتقرين إلى صلات سياسية يتمتعون بالمعرفة والخبرة التي تمكنهم من الإبحار عبر عالم نيويورك أو جمع الـ100 مليون دولار التي يحتاجونها لإنجاز مشروعهم الطموح. لكن إذا تمكنوا بوسيلة ما من تحقيق ذلك، فإن كامل المؤسسة السياسية في المدينة تدعم حقهم في البناء على ملكية خاصة.

وليس هناك في نيويورك من لا يعي تماما الطبيعة الحقيقية للاور مانهاتن، حيث تعكف رافعات حمراء ببطء على إعادة بناء غراوند زيرو، تحيطها ناطحة سحاب شاهقة ومحلات للكعك المحلى وأندية للتعري وكنائس ومساجد ومعابد وصالات مراهنة ومراكز للعلاج والعناية بالقدم.

وشرح هوارد ولفسون، نائب عمدة نيويورك، الذي كتب بالتعاون مع العمدة مايكل بلومبرغ، أفضل خطاب فصل الحجة المؤيدة لبناء المسجد حتى الآن، والذي اقتبس الرئيس أوباما لاحقا من أفكاره خلال حفل إفطار من قيادات مسلمة داخل البيت الأبيض، أن «نيويورك مكان استثنائي للغاية من حيث كثافته. لا أعتقد أن الشخص العادي يدرك أنه ستتعذر مشاهدة غراوند زيرو من داخل ذلك المبنى، وكذلك ستتعذر رؤية المبنى من غراوند زيرو».

في الموقع المقترح لبناء المسجد، لا تزال المباني الباهتة للمبنى تحمل لافتات قديمة تحمل عبارة «مصنع برلينغتون للسترات». كانت متاجر هذا المبنى قد أغلقت أبوابها بعد هجمات 11 سبتمبر، لكن في الشهور الأخيرة زادت أعداد المسلمين عن سعة مسجد مانهاتن، بشارع وراين القريب من المنطقة، مما اضطرهم إلى استغلال المبنى كمسجد. وراء الأبواب الزجاجية، جلس حارس يرتدي زيا رسميا يطالع صحيفة، بينما حمل الجدار خلفه بعض السترات والمعاطف، وشرع المسلمون في الصلاة على سجادة بالية.

ويتدفق على المبنى باستمرار عاملون بمحطات تلفزيونية ومراسلون دوليون. لدى خروجه من المسجد، أبدى رحيل سيدا، (28 عاما)، من كوينز، ضيقه من السيرك المحيط به. وعلق على مشروع بناء المركز الإسلامي بقوله: «هذا شأن محلي».

الواضح أن الربط بين منفذي هجمات 11 سبتمبر من الإرهابيين أعضاء تنظيم القاعدة، والمذهب الصوفي المسالم الذي يتزعمه الإمام فيصل عبد الرؤوف، المعروف على مستوى نيويورك، جاء مثيرا للإحباط، على أدنى تقدير، بالنسبة لمنظمي مشروع المركز.

من جهته، قال أوز سلطان، المتحدث الرسمي باسم مشروع «بارك51» وأحد العناصر البارزة في الحقل الإعلامي الرقمي على مستوى المدينة: «إن من يقفون وراء هذا المشروع من أبناء نيويورك».

ومما أثار حيرة قطاع كبير من المؤسسة السياسية بالمدينة سعى الحاكم ديفيد باترسون لتوفير مكان آخر للمركز، على الرغم من أنه من غير القانوني بالنسبة له عرض أي أراض تتبع الولاية. وأعلن باترسون أنه عقد لقاءات بعبد الرؤوف والمقاول المسؤول عن المشروع، لكن مكتبه الصحافي سارع لتصويب هذا التصريح. أما أوز فقد أشار إلى أنه لم يجر عقد أي لقاء أو تلقي عرض من أحد بارونات العقارات «لمقايضة الأرض بأخرى معنا».

من الواضح أن الصحف الصفراء في المدينة لا ترغب في التخلي عن تناول هذه القضية الساخنة. وقد عجت الصفحات الأولى من هذه الصحف بعناوين مثل «حماس تساند المسجد» و«حروب المسجد». وعليه، أصبح من العسير العثور على أي شخص داخل نيويورك لم تصبه حمى الحديث عن المسجد.

من جانبه، قال ديمون توماس (37 عاما)، الذي يعمل حارسا بناد في المدينة، إن فكرة بناء مركز إسلامي في ذلك الموقع «غير مناسبة»، واشتكى من أن أصدقاءه يرفضون أخذ معارضته لبناء المسجد على محمل الجد لأنه يعمل بناد للتعري، وقال: «على أي حال من يتعرون ليسوا هم من اقتحم بالطائرات برجي مركز التجارة العالمي».

من ناحية أخرى، أسهمت مجموعة من العوامل في منح السياسي جيري نادلر، مكانة فريدة أهلته للتمتع بثقل واضح عند تناول قضية المسجد. يمثل نادلر الضاحية التي تضم غراوند زيرو وهو رئيس اللجنة الفرعية الدستورية المنبثقة عن اللجنة القضائية لمجلس النواب. كما يمثل نادلر منطقة أبر ويست سايد الليبرالية، لكنها في الوقت ذاته معقل اليمين اليهودي في بروكلين. على خلاف الحال مع باقي الديمقراطيين من أعضاء الكونغرس داخل نيويورك، أبدى نادلر تأييدا صريحا لحق المسلمين في بناء المسجد.

وقال نادلر أثناء جلوسه بمكتبه، حيث تحمل الجدران صورة قديمة لبرجي مركز التجارة العالمي: «إنها كارثة إذا كان البعض يعتقد أن أبناء الطائفة المسلمة مسؤولين عن القاعدة».

وعلى الرغم من كونه مدافعا قويا عن إسرائيل، أكد نادلر أنه من المنطقي أن يقاتل من أجل حقوق طائفة مسلمة ربما يختلف معها بشدة. وأضاف أن «اليهود من بين كل الناس ينبغي أن يدركوا أن علينا دعم الحرية الدينية، لأنك لو تمكنت من إعاقة بناء مسجد، فستتمكن من إعاقة بناء معبد».

ويعد ذلك واحدا من الأسباب وراء رفضه الضغوط السياسية لنقل المركز الإسلامي، بما فيها تلك التي مارسها باترسون. إلا أن نادلر كان غاضبا بصورة خاصة من الجمهوريين الوطنيين الذين زعموا لأنفسهم الحديث باسم الناجين من هجمات 11 سبتمبر، على الرغم من امتناعه عن تأييد تشريع يرمي لإمداد هؤلاء الناجين برعاية صحية وتعويض مالي.

وأوضح نادلر أنه «أميل للاعتقاد بأن سارة بالين ربما لا تعي الدستور. وأعتقد أن نيوت غينغريتش رجل ذكي للغاية، وهو يعي الدستور، على الأقل من المنظور الفكري، لكنه لا يتفق معه أو يهتم به على نحو يكفي لتجنب استغلاله الدستور لتحقيق غايات سياسية».

من ناحية أخرى، كشف الجدال حول المركز الإسلامي جانبا مختلفا من شخصية بلومبرغ في وقت سابق من هذا الشهر وذلك عندما ألقى خطابا يحمل طابعا عاطفيا استثنائيا يدعم حق الطائفة المسلمة طبقا للتعديل الأول من الدستور في بناء المركز. وقال: «ليس هناك حي في هذه المدينة بعيد عن متناول محبة الله ورحمته».

وشدد ولفسون، الذي شارك في وضع الخطاب، على هذه النقطة، حيث تحدث عن بلومبرغ «لقد شعر أن البلاد قامت على مبادئ منها امتناع الحكومة عن التدخل في الدين، فليس من حق شخص أن يملي على آخرين أين يصلون وكيف يتعبدون ومن يعبدون».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»