«القاشاني».. فن يدوي يزين جدران الأبنية التاريخية يعود بعد غياب

دخل دمشق قبل 600 سنة وانقرض في القرن العشرين

حرفي «القاشاني» أحمد رمضان ومنتجاته («الشرق الأوسط»)
TT

زائر بعض القصور الأثرية وأماكن العبادة التاريخية في العاصمة السورية دمشق لا بد أن يقف مطولا، بكثير من الإعجاب، أمام جدران كاملة رصفت بأعمال من الخزف الرائع بألوان مبهرة ورسوم رائعة. وإذا ما تجول الزائر في محلات بيع الشرقيات والتراثيات في أسواق «دمشق القديمة»، من الحميدية وحتى مدحت باشا، سيلتقط متعة الفرجة والإبهار البصري ذاته في بحر من الألوان الزاهية البراقة، لكن في أعمال مختلفة تباع للزينة والعرض كالمزهريات والأوعية المتعددة الأشكال. وبالتأكيد، سيقوده فضوله ليستفسر من العارفين والعارضين عن هذه الأعمال التي شاهدها في الأماكن تاريخية.. والآن في الدكاكين وعلى الطاولات وفي نوافذ العرض.

الجواب باختصار شديد هو «القاشاني» - أو «القيشاني» - ذلك الفن الزخرفي الخزفي التراثي الجميل الذي ابتكر قبل مئات السنين، ونسب إلى مدينة قاشان - أو كاشان - الشهيرة في إيران، ومن ثم انتشر بكثرة لتزيين واجهات وجدران الأبنية الكبيرة والمهمة. لكن هذا الفن عانى خلال القرن العشرين المنصرم وتراجع أمره كغيره من الفنون والمهن الدمشقية اليدوية، قبل أن يعود إلى الانتعاش في السنوات الأخيرة.

وقد يفاجأ السائل عندما يسأل أصحاب محلات الشرقيات عن الحرفيين الذين يصرفون كل هذا الجهد لإعادة الفن اليدوي إلى الواجهة، وتأتي الإجابة بأنهم ثلاثة أشقاء دمشقيون من آل رمضان. وكل من هؤلاء يعمل في ورشة منفصلة في قرى ريف دمشق، ويخوضون تنافسا شديدا لإبراز جماليات هذا الفن التراثي البديع.

«الشرق الأوسط» اتصلت بأحدهم، أحمد رمضان، الذي رد مرحبا ومعرفا بنفسه كـ«متخصص في زخارف وخزف وفن القاشاني اليدوي»، ودعانا إلى ورشته اليدوية، مصرا على أن نشاهده وهو يعمل على إنهاض هذا الفن من سباته. وحسب إرشاداته، قصدنا مكان ورشته قاطعين أحياء دمشقية كاملة وضواحي ريفية.

سألناه «لماذا كل هذا البعد عن المدينة؟».. فأجاب «إنها ضرورات العمل ومستلزماته، فالقاشاني يحتاج إلى مكان واسع وهادئ، بعيدا عن الناس، كي لا يتعرض للأذى.. فيضيع الجهد والتعب والزمن الطويل لإنجاز عمل منه. ثم إنه يحتاج إلى فرن ومعدات كثيرة.. ومن الصعب تأمين كل هذا ضمن المدينة، فكان لا بد من التوجه إلى الريف».

وقدم أحمد لنا كأس عصير التوت البارد، وبدأ الحديث عن رحلته مع فن القاشاني اليدوي، وخصوصيته ومراحل إنجازه، فقال «القاشاني فن مملوكي، ولاحقا طوره العثمانيون واستخدم كديكورات في البيوت القديمة. وهو يحضّر من مواد خام كالرمل وبعض البلورات التي يخلط بعضها مع بعض. وبعد تحولها لقوام عجيني نقوم بكبسها وتجفيفها في الفرن فتخرج لدينا ألواح هندسية بأبعاد متساوية.. وعندها نباشر الرسم والزخرفة عليها بالأشكال التي نريد، ونلونها بصورة مكثفة. وبعد ذلك نعيدها إلى الفرن لشيها.. ومن ثم تصبح جاهزة للاستخدام».

وأضاف «غالبا ما تكون الرسوم والزخارف من التراث الدمشقي، إذ دخل هذا الفن إلى دمشق قبل 600 سنة، ولذا كانت كل الأماكن الذي وجد فيها القاشاني تأخذ نمطا وروحا واحدة باستثناء بعض الأماكن التي تلاحظ، وبشكل واضح، اختلافات جوهرية فيها». وبرر أحمد السبب بأن هناك ما سمي بالقاشاني الدمشقي لتمييزه عن التركي، حيث عمل حرفيون دمشقيون قبل 300 سنة على ابتكار طريقة جديدة في تصنيع القاشاني خاصة بدمشق.

وحيال ما يتعلق بزمن إنجاز القاشاني قال أحمد رمضان إن هذا الأمر يتوقف على مراحل العمل والقطعة المراد تصنيعها يدويا «فهناك الزبادي والمزهريات والصحون والبلاط.. ومن كل القياسات والأحجام. وغالبا ما تكون البلاطة بقياسات متفق عليها وهي إما «20 × 20» أو «21 × 21» أو «30 × 30».. حيث «تطبق على الجدران بشكل فني جميل». وتابع «أبو سلطان» كلامه شارحا «القاشاني انقرض لسنوات طويلة، لكن والدي هو من أعاد إنعاشه وإنهاضه في أواخر القرن العشرين، وطلب منا نحن، أولاده الثلاثة، مواصلة العمل في مجال إنهاض هذا الفن التراثي اليدوي. وحقا، هذا ما حصل، وكانت النتيجة بعد سنوات من الصبر والجهد إقبال كثرة من الناس على اقتناء أعمالنا من القاشاني، والتعاقد معنا لإنجاز جدران كاملة في مواقع تاريخية يجري ترميمهما وكانت مغطاة بالقاشاني». وذكر من الأمثلة على الأعمال التي أنجزها في مجال الترميم، جامع الشيخ محيي الدين في منطقة الصالحية بدمشق، وجامع الدرويشية، وسبيل مائة التاريخي.

وتابع أحمد رمضان كلامه ليقول إنه بعد انتشار أعماله مع شقيقيه محمد وعدنان وتزايد الطلب عليها، من قبل كثيرين، شجع نجاحهم هذا لفيفا من الشباب والحرفيين على خوض تجربة العمل بالقاشاني في دمشق. غير أن هؤلاء لم يفلحوا في إنتاج القطع الحرفية الجيدة لسبب بسيط وواضح وجوهري «هو أنهم لاستعجالهم إنتاج قطعهم من القاشاني، وتوخيا للربح السريع، استخدموا طريقة الطباعة الجاهزة لرسم الأشكال والألوان على ألواح القاشاني قطعة قطعة، في حين أننا لا نزال نعمل يدويا في رسم الشكل وزخرفته وتلوينه. لذلك يلاحظ الفارق واضحا بين عمل قاشاني منفذ بالطريقة اليدوية عن ذلك المنفذ بشكل آلي وبواسطة الطباعة، ويمكن لأي إنسان يتذوق الفن أن يكتشف الأصلي من المقلد».

ولم يعتمد أحمد رمضان فقط على الرسوم القديمة التراثية، بل - كما يقول - ابتكر نحو 100 رسمة جديدة، واستطاع أن ينفذ منها قطعا كبيرة بشكل فني. وكانت أكبر لوحة عملها برسمة واحدة وموضوع واحد فقط بأبعاد 4.5م × 3.5م، وهناك عمل آخر نفذه في منطقة مكتب عنبر الأثرية بـ«دمشق القديمة» تضمن لوحة واحدة فقط بأبعاد 9.5م بـ1.5م، واستغرق إنجازها 40 يوما، وهي من أجمل الأعمال التي نفذها ويعتز بها، خاصة أنها جاءت قاشانية ثلاثية الأبعاد.. و«ميزة القاشاني - حسب أحمد - أنه كعمل فني يدوي يمكن أن يتداخل مع الخشبيات والرخام لتزيين الواجهات. ثم هناك ميزة أخرى هي ميزة ألوانه التي تضج حيوية حتى ليشعر المتفرج بحميمية القطعة التي يراها ويحس بنعومتها بعيدا عن قساوة خامتها الأساسية وجماليتها المتفردة. لذلك كلما استطاع حرفي القاشاني إظهار هذه الحميمية والحيوية في أعماله أجاد أكثر.. واليوم يطلق بعضهم على مثل هذه الأعمال من القاشاني لقب (الملوكي)، الذي يترك الحرفي بصمته عليه مع استخدامه طبقة المينا المميزة، وهي من البلورات التي تكسر وتطحن». هذا، وكان والد أحمد، أسعد رمضان «أبو محمد»، يستخدمها بشكل فني خاص به.

وأخيرا، حدد أحمد الصفات التي يجب أن يتميز بها حرفي القاشاني، فقال إنها «الصبر بلا حدود، وتحمل الإرهاق الجسدي، والخيال الواسع». وضحك قبل أن يقول إنه يذكر دائما أمام زواره هذه الصفات ومستلزمات حرفي القاشاني بجملة شعبية متوارثة هي «صبر أيوب ومال قارون وعمر نوح»، ذلك أن تكاليف العمل بها كبيرة ماديا، وتحتاج لبال طويل ولعمر طويل لكي يستطيع الحرفي أن يبدع فيها ويقدم منتجات متميزة من القاشاني.