عالم سري معقد لسرقة الأعمال الفنية من المتاحف البارزة في العالم

تحذيرات للمتاحف من بوسطن إلى مصر.. وفرنسا تتعرض إلى 20 سرقة سنويا

شرطي يبحث عن أدلة بينما يقوم بتغليف أطر اللوحات الخمس المسروقة خارج متحف باريس للفنون المعاصرة (أ.ب)
TT

لسنوات طويلة، ظلت إمكانية تعرض المتاحف وأصحاب الأعمال الفنية الرفيعة للسرقة مصدر مخاوف واسعة النطاق داخل فرنسا، لكن حدثين دفعا هذه القضية إلى بؤرة الاهتمام.

أولهما: تعرض متحف باريس للفن الحديث في مايو (أيار) لعملية سطو تسببت في خسائر بقيمة 100 مليون يورو، أو 127 مليون دولار. ثانيا: خوض ثلاثة رجال في الشهر التالي مغامرة جريئة باقتحام شقة حفيدة بيكاسو. وكشف الحدثان النقاب عن مدى عرضة من يتحفظون على أعمال فنية عظيمة لفئة من اللصوص تتسم بقدر بالغ من الدقة.

وفي استهدافهم خمس لوحات من ثلاثة معارض داخل متحف الفن الحديث، بينها لوحات لبيكاسو وماتيس وموديغلياني، يبدو أن اللصوص تمكنوا من تحديد النافذة الوحيدة المزودة بجهاز إنذار معيب، وجدول النوبات الليلية لحراس الأمن، وعدد من العمال الفنية الأدنى قيمة التي عمدوا لتجنبها.

وبالمثل، في مسرح الجريمة التي وقعت مؤخرا، سرقة لوحتين قيمتين من أعمال بيكاسو، استخدم اللصوص مفتاحا زائفا، جرى تزييفه بدقة للدخول إلى الشقة، وعملوا بهدوء شديد كي لا يوقظوا حفيدة الرسام الشهير أثناء اقتطاعهم اللوحات عن الأطر المحيطة بها، وغادروا من دون أن يخلفوا وراءهم أي بصمات أو أثر للحامض النووي.

ولا يزال الغموض يكتنف هوية اللصوص المتورطين بالجريمتين، الأمر الذي ترك العالم الفني يعج بالتكهنات حول الجرائم وتساؤلات محيرة تتجاوز حدودها.

من يقف وراء حوادث السرقة الـ20 أو أكثر التي تتعرض لها المتاحف الفنية في فرنسا سنويا، كيف يجرؤ اللصوص على مجرد الأمل في الاستيلاء على قطع فنية لفنانين مشاهير يمكن التعرف عليها بسهولة، هل تعد المؤسسات الفنية الفرنسية مؤهلة للتعامل مع مناورات ما يبدو أنه عصابات من مجرمين محترفين؟

في عالم السوق الفنية السوداء للأعمال المسروقة الذي يحيطه الغموض، تعتبر المتاحف الفنية الفرنسية أهدافا ذات أولوية. وعلى الرغم من انحسار جرائم السرقة التي تعرضت لها متاحف فنية من ذروتها عام 1998، عندما وصلت لـ47 جريمة، فإن الأرقام تشير إلى وقوع 35 جريمة سرقة متاحف في المتوسط سنويا، على مدار الأعوام الـ15 الماضية.

وأطلقت هذه الجرائم العنان إلى سيل من النظريات المتعارضة التي توجه أصابع الاتهام بوجه عام نحو عالم إجرامي سري يضم أطيافا مختلفة من المجرمين، يعملون عبر خلايا مرنة، ويتشاركون في المعلومات بشأن مشترين محتملين، والأعمال الفنية المعروضة للبيع، ويدرسون بدقة شديدة المتاحف التي يستهدفونها قبل مهاجمتها.

في هذا الصدد، قال كريستوف غيرارد، نائب عمدة باريس لشؤون الثقافة: «أخبرني مديرو متاحف أخرى أن هذا الأمر يشغل بالهم بصورة يومية. ويعلمون جميعا أن الجرائم معقدة، وأن قيمة الفن اليوم تتجاوز حدود الخيال».

وأشار غيرارد إلى أن اللصوص كانوا على درجة كبيرة من المعرفة في حالة متحف الفن الحديث، مما اتضح أنهم هاجموا المتحف في خضم عملية تبديل معارض، وهي فترة يقل فيها النشاط ومستوى إجراءات الأمن.

وقد تلقت المتاحف البارزة من بوسطن إلى مصر صيحات تنبيه لضرورة الالتفات لتحديث أنظمتها الأمنية.

على سبيل المثال، سرقت 13 لوحة، بينها أعمال لرمبراندت وفيرمير، من متحف «إيزابيلا ستيوارت غاردنر» عام 1990، ومن المحتمل أن تكون مخبأة في مكان ما في جنوب فرنسا أو إسبانيا، حسبما يعتقد مخبرون بارزون بمجال القضايا الفنية. كما تعرضت لوحات لفان جوخ للسرقة، بينها لوحة «زهرة الخشخاش»، التي تبلغ قيمتها 55 مليون دولار، وسرقت هذا الشهر من متحف محمود خليل بالقاهرة، حيث لم يعمل نظام الإنذار - مثلما حدث بباريس - لنقص قطع الغيار. وفي حادث سرقة آخر وقع منذ عدة أيام، قام زائر لمتحف «بيلفورت» في بلجيكا ببساطة بحمل تمثال «دالي» البالغ قيمته 100 ألف يورو، في حقيبته. يذكر أن التمثال تبلغ زنته 10 كيلوغرامات، أو ما يعادل 22 رطل، ولم يكن محميا بجهاز إنذار.

إلا أن فرنسا وإيطاليا على وجه التحديد، بما تتمتعان به من وفرة في الكنوز الثقافية، تعتبران أكثر دولتين عرضة للسرقات الفنية، طبقا لما ذكره «إنتربول»، منظمة شرطية دولية مقرها ليون، ولديها قائمة بأكثر من 35 ألف مادة فنية تعرضت للسرقة. وقد وضعت هذه القائمة العام الماضي.

من جانبه، سخر كارل هاينز كايند، رئيس وحدة الأعمال الفنية المسروقة لدى «إنتربول»، من الفكرة السينمائية الحالمة التي طرحها فيلم «قضية تاج توماس» (ذي توماس كراون أفير)، التي تدور حول أن أثرياء من محبي جمع التحف والأعمال الفنية يقفون وراء مثل هذه الجرائم. ووصف الفكرة بأنها «محض خيال».

بدلا من ذلك، وحسبما يبدو من جريمتي متحف باريس وشقة حفيدة بيكاسو، فإن المتورط بالجرائم منظمة متخصصة في سرقة الأعمال الفنية يساورها فخر شديد بعملها، حسبما أفاد به روبرت ويتمان، العميل السابق لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي. كان ويتمان قد اخترق صفوف عصابة إجرامية بجنوب فرنسا عبر التنكر في شخصية خبير فني ثري من فيلادلفيا يساعد الشرطة على استعادة لوحة مسروقة لمونيه وأعمال أخرى سرقت من نيس عام 2007.

وأشار إلى أنه أثناء محاولته إبرام صفقة مع اللصوص، تباهى أحدهم بأنه عكف على مراقبة أهدافه طيلة سبعة شهور. وقال ويتمان: «كانوا فخورين للغاية بأنفسهم، وقالوا: (لقد عملنا بجد شديد من أجل الوصول لتلك اللوحات)».

هل يعد هذا النوع من الجماعات مسؤولا عن السرقات التي حدثت في متحف الفن الحديث في باريس؟

ذهب تشارلز هيل، مخبر متقاعد في مجال القضايا الفنية في سكوتلانديارد وتحول إلى محقق خاص، بصورة سرية لاستعادة لوحة «الصرخة» لمونش بعدما سُرقت عام 1994 من المتحف الفني في أوسلو. كما استعاد لوحة للرسام فيرمير سرقتها عصابات أيرلندية من أحد المنازل الإنجليزية.

وقال هيل: «هذه الجماعات مثل شريط الحمض النووي؛ جميعهم مرتبطين ببعضهم بعضا وفي سلسلة واحدة. لديهم اتصالات كبيرة مع العصابات في الدول التي تقع شمال غربي أوروبا، مثل بلجيكا وهولندا، بهدف التصرف في السلع المسروقة».

وظلت الشرطة الفرنسية وقاضي التحقيقات صامتين بصورة غير عادية بشأن التحقيق الجاري في المتحف في باريس، لكنهم يشككون في الفكرة القائلة بأن عصابة بريس دو مير متورطة في الحادث.

وقال بيير تابل، الذي قاد في السابق فرقة الفن في الشرطة الوطنية الفرنسية ويعد الآن الكولونيل المسؤول عن العمليات، «عندما تقول بريس دو مير، فإن الجميع ينبهر، لكن لا يوجد هناك أي أدلة دامغة أو حقائق تسمح لنا بتوريط هذه العصابة. لا يعد ذلك نشاطهم، ولا أعتقد أنهم يعرفون شيئا حول هذا الأمر. ما الذي ستفعله عصابة بريس دو مير بلوحة كبيرة؟».

ويتضح التنظيم غير الدقيق للسرقات الفنية في قضية بيرنارد جان تيرنوس، وهو مجرم فرنسي مسجون الآن في أحد السجون الأميركية في بيغ سبرينغ، في ولاية تكساس، بعدما تفاوض مع السيد ويتمان وغيره من العملاء السريين بمكتب التحقيقات الفيدرالي على أحد اليخوت في ميامي لبيع لوحة مونيه وثلاث لوحات أخرى اختفت عام 2007.

وقام بسرقة هذه اللوحات من متحف الفنون الجميلة في نيس خمسة من الرجال المسلحين والمقنعين، دخلوا المتحف وخرجوا منه في أربع دقائق فقط.

وفي تسهيل عمل مجموعة نيس، التي شملت مالك متجر للدرجات البخارية وعاملا على أحد الحفارات وتم القبض عليه فيما بعد، وجد ويتمان نفسه أيضا يتحدث إلى تيرنوساند بشأن توافر لوحتين من لوحات بيكاسو المسروقة من شقة حفيدة بيكاسو، ديانا ويدماير بيكاسو.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان للسيد تيرنوس اتصالات مع العصابة التي سرقت اللوحات أم لا، لكن ويتمان قال إنه تلقى رسالة بريد إلكتروني تحتوي على صور للوحات المسروقة، موضوعة إلى جانب صحيفة، يرجع تاريخها إلى أسبوع بعد السرقة.

وقال أوليفير باراتيلي، محام فرنسي لأسرة بيكاسو، وأحد ضحايا السرقة أيضا، لم يطلب أي أحد من قبل على الإطلاق فدية مقابل لوحتين مشهورتين ولوحة لبيكاسو، تلك التي تم استردادها منذ ذلك الحين. وقال: «بكل صراحة، ليس لدينا أي تفسيرات، ولا يزال الأمر برمته يشكل غموضا كبيرا».

وقال إن اللصوص كانوا حذرين للغاية في ليلة السرقة، لدرجة أنهم لم يتسببوا في أي أضرار تذكر في اللوحات، فيما عدا بعض الشقوق الصغيرة عندما تم إدخال اللوحات داخل الأنابيب.

* خدمة «نيويورك تايمز»