شهر رمضان ينعش سوق «السبح» في مصر

من أجودها اليسر والمرجان... وأغلاها المطعمة بالذهب

في عالم السبح يتقاطع الشعبي البسيط والفخم الثمين، لكنهما يصبان في غاية واحدة هي التسبيح لله العلي القدير (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

يحرص الحاج عبد الرحمن على ألا تفارق «السّبحة» - أو«المسبحة» - يديه، خاصة خلال شهر رمضان. فقد اعتاد التسبيح على حباتها الـ99 سواء بعد الصلوات لختام الصلاة أو لمساعدته على الذكر. وحين تسأله عن علاقته بالمسبحة، يبادرك الحاج عبد الرحمن بتلقائية من خبر الأيام والسنين: «يا ابني المسبحة حياة لا تصلني بذكر الله عز وجل فحسب، بل تصلني بنفسي أيضا».

في المساجد المصرية كثيرون لديهم الحالة الروحية التي يعيشها الحاج عبد الرحمن، وهم في جو إيماني بهيج يمسكون بحبات «السبح» - أو «المسابح»، أو بين أصابعهم ويباشرون بالتسبيح والحمد والتهليل والاستغفار.. وكأنما هم يتعاملون مع شيفرة سرية للتقرب من الله والتماس رحمته ومغفرته. وخلال شهر رمضان، بالذات، تشهد مبيعات «السبح» حالة رواج غير عادية في عموم أنحاء مصر، إذ يزداد الطلب عليها ويقبل الآلاف على شرائها باعتبارها رمزا دينيا... ولما تضيفه من نفحة روحانية خلال أيام الصوم. وبالتالي، لا يعود غريبا أن تنشط «سوقها» ويبرز باعتها الدائمون والمتجولون خلال الشهر المبارك في القاهرة الإسلامية، وخاصة في حي الحسين وخان الخليلي والجمالية. فهنا تكثر عمليات البيع والشراء، وكل ذلك يدعم انتعاش ذلك الموروث الثقافي الإسلامي.

عندما يتجول الزائر أمام واجهات المحلات في «سوق السبح»، سيتمكن بسرعة من ملاحظة أشكال وألوان وأحجام متعددة للسبحة، وكذلك الخامات المستعملة في الصنع سواء التقليدية منها، مثل الكهرمان والمرجان والفيروز واليُسر والفضة والبرونز واللازورد والذهب والأبنوس والكوك، أو الخامات والخلائط الحديثة، مثل البلاستيك - على أنواعه - والبوليستر. وأمام المشتري، أيضا، فرص الاختيار والمفاضلة بين «السبح» المصرية... وتلك المستوردة من الصين وتركيا وسورية ودول جنوب شرق آسيا.

من جهة أخرى، سيجد زائر «سوق السبح» محلات وبازارات متخصصة في بيعها تعلوها لافتات عليها أسماء شهيرة لعائلات تجار توارثوا هذه التجارة جيلا بعد جيل، ومن خلفهم تصطف ورش التصنيع التي تضم العشرات من العمال المهرة الذين يمتلكون مهارات فنية متميزة. وهذه المحلات غالبا ما تتجاور مع المساجد، وعلى جنبات الشوارع المطلة عليها يفترش باعة «السبح» الأرض وأمامهم بضاعتهم المعروضة. أما إذا جلست على أحد مقاهي الحسين وخان الخليلي، فيمكن - أيضا - أن تتعرف عن كثب على «السبح» من خلال الباعة الجوالين الذين يطوفون بمعروضاتهم المتفاوتة الأسعار والنوعية بين مرتادي المقاهي من الزوار المصريين والسياح العرب، وكذلك السياح الأجانب الذين يقبلون على شراء «السبحة» كتذكار من الشرق.

داخل السوق التقت «الشرق الأوسط» الحاج سامي جاد، أحد باعة «السبح» في محله المجاور تماما لمسجد الحسين، فقال شارحا: «أعمل في مهنة بيع السبح منذ نحو 50 سنة، سواء في عملية التصنيع أو البيع، وخلال هذه السنوات الطويلة تطورت صناعة السبح مع مرور الوقت. ففي البداية، كانت تصنع من مواد بدائية كالحجارة والقواقع والعظم والخشب، ثم تطورت إلى الفضة والبرونز والذهب والأبنوس والبلاستيك، وأخيرا بات هناك السبح الماسية وهي أغلى الأنواع. أيضا، بمرور الوقت تغيرت صناعة السبح في أنواعها وأشكالها، فاستعيض عن العمل اليدوي بالماكينات، وهو ما ساعد على سرعة إنجاز السبحة. فهناك سبحة يحتاج العامل في تصنيعها يوما كاملا، وهناك سبحة يحتاج لإنجازها أياما، وفي المقابل، ثمة سبح لا يستغرق صنع الواحدة منها دقائق معدودة وأخرى تستغرق ساعات قليلة».

ويربط الحاج سامي، بائع «السبح»، بين سعر «السبحة» ونوعية الخامات المستخدمة في تصنيعها، موضحا أن «الأنواع عالية القيمة المادية من السبح تكون خاماتها من مواد طبيعية مثل العاج (سن الفيل) أو اليُسر، وهو خام من الأعشاب المائية يستخرج من البحار، أو خام الكوك ويكون من خشب الأشجار، وبالطبع، خامات الأحجار الكريمة وشبه الكريمة، ومنها المرجان بأنواعه التي تتراوح بين اللونين الأبيض والأحمر، وهذه السبح نادرة جدا وتباع بأسعار مرتفعة... ولا يقبل على السبح المصنعة من هذه الخامات سوى الأثرياء سواء من المصريين أو العرب، ثم تأتي السبح المطعمة بالذهب وهي نادرة وتصنع حسب الطلب ولا يقل سعر الواحدة منها عن ألف جنيه. أما السبح المطعمة بالفضة، فهي منتشرة ولها قيمتها الفنية، وهي اليوم أكثر ما يصدر إلى الأسواق العربية خاصة المملكة العربية السعودية، حيث تباع بجوار الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة. وأما ما يتعلق بالخامات التي تستخدم في الأنواع الشعبية رخيصة الثمن، فهي الخامات البلاستيكية أو الكهرمان المقلد والمرجان المقلد».

ويتابع الحاج سامي جاد: «... وتتوقف قيمة السبحة أيضا على حجمها وعدد حباتها، لكن الأكثر رواجا والأعلى طلبا في السوق المصرية والعربية هي المسابح الصغيرة التي تتكون من 33 حبة، وهي لتسهيل التسبيح المقترن بختام الصلاة بقول سبحان الله 33 مرة والحمد لله 33 مرة والله أكبر 33 مرة، تليها السبحة التي تتكون من 99 حبة التي تجمع عدد هذه الأذكار الثلاثة وتكون مقسمة إلى ثلاثة أجزاء متساوية، وقد يشير العدد إلى أسماء الله الحسنى. وهناك مسابح أخرى تتكون من 45 حبة أو 66 حبة وتكون غالبيتها للتصدير. كذلك تتوقف قيمة السبحة وفق شكل حباتها، سواء كانت تشبه حبة الزيتون أو تتخذ شكل الترمسة أو الشكل البيضاوي أو الدائري أو أي أشكال هندسية أخرى يتفنن الصناع في ابتكارها».

أما أحمد فضة، وهو صاحب إحدى ورش تصنيع «السبح» في حي الجمالية، فيوضح أنه يعمل في هذه الصناعة منذ 17 سنة، وأنه تخصص بتصنيعها من معدن الفضة. ثم يقول: «إن تجار السبح المصريين يقبلون على شراء السبح الفضية بشكل كبير... ثم يقومون بتصدير الإنتاج بعد ذلك إلى عدد كبير من الدول العربية».

ويشير أحمد إلى أن «الفضة إلى جانب كونها معدنا نفيسا له قيمته، فهي آمنة لمن يستخدمها أكثر من أي نوع آخر. فالسبح المصنوعة من معادن أخرى قد تضر بالجسم عند استخدامها، لما قد تفرزه من مواد سامة تتفاعل مع العَرَق، خاصة، أثناء الصيف مثل رمضان هذا العام، أما الفضة فليس لها أضرار». ويقوم أحمد بإضافة الفضة إلى «السبحة» بنسب معينة وفق طلبات التجار. «فهناك - كما يشرح - سبحة يضاف إليها 10 غرامات وأخرى 20 غراما، أما السبحات ذات القيمة العالية فيضاف إليها 100 غرام، ثم يضاف إلى السبحة مواد أخرى كالكهرمان والفيروز والمرجان والعاج والصدف البحري بألوانه الأزرق والأبيض والأحمر».

وحسب رأي أحمد، فإن «صناعة السبحة تعد صنعة فنية متميزة تعتمد على العمل اليدوي بنسبة 90%، بينما تتدخل الماكينات والآلات في النسبة الباقية فقط، فالسبح المصرية لا تلائمها الآلات، لأنها تعتمد على المعادن النفيسة، أما السبح الأخرى - كالصينية مثلا - فلا تعرف العمل اليدوي، لأنها تعتمد على خامات حديثة كالبلاستيك والمشتقات البترولية، ورغم أن كثرة من التجار حاليا يحترفون استيراد السبح من الخارج لرخص ثمنها، الذي لا يتجاوز ثلاثة جنيهات للسبحة، فإن السبح المصرية لا تزال في الصدارة من حيث جودة الخامات. فمصر كانت ولا تزال رائدة في صناعة السبح وتصديرها إلى الدول العربية والإسلامية».