الشيخ ناصر بن عبد الرحمن السعيد، ترك سراييفو قبل عدة سنوات. وفي سراييفو ترك أثرا طيبا لا تزال نسائمه تلوح في الآفاق، وفي الأجواء العامة، وجو رمضان خاصة.
كان مديرا للمكتب الإقليمي للهيئة السعودية العليا في البوسنة، لم يحب الناس مثله أحدا، سواء كانوا عربا أو بوسنيين أو غيرهم. ولكثرة الحديث عنه في الأوساط العربية والبوسنية، كرمز من رموز «خيرية الأمة» كانت هذه التغطية.
وقال شاكر من تونس لـ«الشرق الأوسط»: «في رمضان يتذكره من لمسوا عن قرب، طيبته، وحكمته، وعدله، وحدبه، وكرمه، وفضله، وخيريته، وتميزه، وتفوقه، وتفرده». وأضاف: «كان رجلا كأمة، يسمع للجميع، ويساعد الكل، ولا يفرق بينهم على أسس تعود الناس أن يصنفوا الناس وفق معاييرها البائدة».
وعن علاقة الشيخ ناصر السعيد بالناس في رمضان قال شاكر: «كان يجمع الشباب غير المتزوجين عنده في منزله للإفطار في بيته طيلة شهر رمضان المبارك على نفقته الخاصة، ويكون على المائدة كل ما لذ وطاب. الأكل السعودي، من السليق، إلى المطبق، إلى الكبسة، وغيرها من الأطعمة الأخرى المتنوعة». وأوضح أنه «كان يفعل ذلك من أجل ضيوفه العزاب طيلة شهر رمضان، وفي فطور الصباح أثناء العمل، في غير رمضان، حيث يأتي الإفطار يوميا ويتحلق العزاب حول المائدة، وكثير من المتزوجين الطفيليين» .
وحول ما إذا كان ذلك الكرم أمرا عاديا في منزل الشيخ ناصر السعيد، أجاب شاكر: «الشيخ ناصر السعيد كان كريما جدا، ولكنه متقشف في حياته الخاصة، لقد شهدنا فراشه الذي كان على الأرض، واكتفاءه ببعض لقيمات عند الأكل، وكان بإمكانه الإقامة في فندق 5 نجوم، لكنه كان يكتفي بتأجير بيت، ليوفر المال للأعمال الإغاثية، لا سيما أن محنة البوسنة كانت في أوجها آنذاك، وإنما كان يكرم ضيوفه من الشباب غير المتزوجين لعلمه بظروفهم الصعبة من جميع النواحي».
ويؤكد شاكر أنه لا أحد من أهل الشيخ كان في البيت وقتذاك كزوجته على سبيل المثال، «لم تكن زوجته في البيت، ولكن الإفطار كان موجودا، حيث تعلمت الخادمة طهي الطعام على الطريقة العربية، ولكن الناس كإبل مائة».
دماثة أخلاق الشيخ ناصر بن عبد الرحمن السعيد، وكرمه، وحكمته، وبعد نظره وفق شهادات من عمل معه، وصاحبه، لا تقف عند إعداد الطعام للصائمين العزاب في رمضان، أو فطور الصباح للعاملين منهم معه في الهيئة السعودية العليا فحسب، بل تتعداها للقضايا الاجتماعية، وقضايا الكيد الوظيفي، إن صح التعبير، والتقرب للمسؤول بالإساءة للآخرين، ونقل أخبارهم، والكذب عليهم «كذبوا على الشيخ بأن لبعض الموظفين علاقات مريبة، سواء تتعلق بالسلوك، أو بالأمور الأمنية، ولكنه كان يستدعي الشخص ويطرح عليه بعض الأسئلة، فإذا نفى ما قيل عنه، تركه لعدم وجود أدلة تدينه، وفق الشرع الحكيم» .
واستطرد قائلا: «ذات مرة قيل للشيخ ناصر، إن أحد موظفيه مخابرات، فقال لهم ما الدليل، وكان الرد جاهزا: يقولون! فأجابهم بحزم: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.. من يقول عن فلان مخابرات هو المدان.. وفعلا، بعد سنوات عرف الجميع أن أحد الذين روجوا لتلك الإشاعات كان عميلا للمخابرات وقدم 100 ألف نسخة لجهاز أمن معروف، والسؤال، من الذي مكنه من ذلك؟».
أما مبين، فيشرح، كيف كان الشيخ ناصر السعيد، يستدعيه سواء في رمضان، وكان ذلك يوميا، أو عند مجيء ضيوف خاصين إلى منزله، «فيقيم لهم الولائم، ولا ينسى، الضعفاء من العاملين معه، فيدعوهم للطعام حتى لا يكون (شر الوليمة) التي يدعى لها الأغنياء دون الفقراء». ويمضي قائلا «الشيخ ناصر السعيد شخصية فريدة من نوعها، لم أر مثلها طوال حياتي، فقد اختلفت مع بعضهم في العمل وأوقفوني عن الشغل، وقطعت حبالي إلا حبل الله المتين، وعندما علم الشيخ ناصر بذلك أعادني للعمل، وله علي أفضال كثيرة، والله إني مستعد لأن أفديه بروحي، لم يمر رمضان دون أن يدعوني إلى بيته، وكان يدعوني عندما يأتيه ضيوف من المملكة العربية السعودية، ويقدمني إليهم أحسن تقديم، وكذلك يفعل مع الجميع» .
وعن الشيخ ناصر السعيد في السفر، يذكر مبين أن «أجمل الأيام هي التي رافقت فيها الشيخ ناصر السعيد في السفر للإشراف مباشرة على توزيع المساعدات الإنسانية في أقاليم البوسنة، أو زيارات ميدانية للاطلاع على حاجيات المناطق، أو لتوزيع مساعدات إفطار صائم أو إعادة المهاجرين إلى ديارهم، كان دائما بشوشا، يمازح من يرافقه في السفر ويستمع إليهم، كما لو لم يكن مديرا».
ولا يقتصر صيت الشيخ ناصر السعيد على العاملين معه من الجنسيات المختلفة، بل أينما تحط الرحال، في أقاليم البوسنة، موستار، وبيهاتش، وبوغوينو، وتوزلا، ودوبوي، وزينتسا، وبريتشكو، وغيرها، وفي جميع المؤسسات، الصحية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وغيرها، تجد الذكر الحسن لرجل من السعودية، قدم لمنطقة غرب البلقان، لتقديم الإغاثة، فأصبح قصة تتوارثها الأجيال. «فقد جاء للبوسنة كثيرون، ولكنهم مروا كسحائب الصيف، وتهاووا من الذاكرة كورق الخريف، وتلاشوا كالزبد في يوم عاصف، بيد أن هذا الرجل، ترسخ في القلب، والذاكرة، كشجرة البلوط، إذا مدت جذورها في الأرض لا تعود القهقرى».