نذر المواجهة تداهم موسكو بسبب الخلاف حول بناء مسجد

«مزحة» علاء الدين تكشف عن الحاجة إلى خطاب ديني مستنير

TT

نذر «المواجهة» تلوح في أفق العاصمة الروسية بسبب خلاف حول «بناء مسجد» في الوقت الذي تقف فيه إدارة المدينة عاجزة عن احتواء تداعياته. الآراء تبدو شديدة التناقض يطرحها كل من ممثلي الأطراف المعنية في إطار منطق يفتقر إلى الحكمة. مسلمو العاصمة، وتحديدا أبناء وساكنو منطقة تيكستيلشكي جنوب شرقي موسكو، يطالبون بتخصيص قطعة أرض لبناء مسجد يقيمون فيه شعائر دينهم في وقت تعم فيه الشكوى من نقص في المساجد لاستيعاب الزيادة المطردة لأعداد المسلمين الذين يقولون إن عددهم يناهز المليون ونصف المليون نسمة وإن قالت تقديرات أخرى إن العدد يقترب من المليوني مسلم، في الوقت الذي لا يزيد فيه عدد المساجد على أربعة في الوقت الذي يؤدي فيه دبلوماسيو البلدان العربية والإسلامية صلواتهم داخل السفارات وغير مسموح لغيرهم سوى للقليل النادر بأداء صلاة الجمعة معهم. منطق لم يجد آذانا صاغية من جانب سكان منطقة تيكستيلشكي الذين هبوا، وهم في معظمهم من المسيحيين وغير المسيحيين، للاعتراض على قرار رئيس بلدية المنطقة الذي وافق على تخصيص قطعة أرض لإقامة المسجد المنشود بناء على توصية نائب عمدة العاصمة. وقد ساق هؤلاء مبرراتهم التي تتباين في جوهرها بقدر تباين ثقافة من يقف مناهضا لمبادئ العيش المشترك والتسامح بين أبناء الوطن الواحد. فمن قائل إن المنطقة ليست في حاجة إلى تكرار ما يحدث بجوار المسجد المركزي في وسط العاصمة من ضوضاء وتزاحم وازدحام ونحر للأضحية في الشوارع على مرأى من الأطفال والصغار في أيام الأعياد والمناسبات الدينية، في إشارة إلى ما يحدث إبان صلاتي عيدي الفطر والأضحى، إلى معترض من حيث المبدأ على إعطاء المسلمين حقا يزعمون أنه حكر على أصحاب المدينة من المسيحيين الذين سبق ورفضت بلدية المنطقة السماح لهم ببناء كنيسة في نفس المكان، إلى «أخرق» يشترط ضرورة السماح للمسيحيين في المقابل بإقامة الكنائس في قلب مكة المكرمة وكبريات المدن الإسلامية بموجب مبدأ التعامل بالمثل، إلى آخر مثل هذه «الترهات» التي تضطر عددا من رجال الدين إلى الإدلاء بتصريحات تزيد من حالة التوتر في المنطقة. فها هو الشيخ شامل علاء الدينوف أمام مسجد ساحة النصر وأحد المساجد الكبرى الأربعة في موسكو يقول إن في موسكو وحدها ما يقرب من 800 كنيسة لا يؤمها أحد في أغلب الأوقات، بينما لا يجد المسلمون العدد الكافي من المساجد، ويقف شقيقه الدار علاء الدينوف الذي يعمل إماما لأحد مساجد العاصمة يطرح فكرة السماح للمسلمين بتأدية صلواتهم في هذه الكنائس، متناسيا في أغلب الظن أن سيدنا عمر رضي الله عنه حين دخل القدس رفض تأدية الصلاة في إحدى كنائسها خوفا من اعتبار ذلك سنة قد يقتدي بها المسلمون لاحقا. وقد كانت مثل هذه التصريحات والنداءات التي تناقلتها الأجهزة الإعلامية وقودا إضافيا أسهم في تأجيج نيران فتنة يدعو الكثيرون من العقلاء إلى سرعة العمل من أجل احتوائها والبحث عن حلول ناجعة للخروج من المأزق الراهن.

المشكلة حقيقية وللمسلمين الكثير من الحقوق المنقوصة في موسكو يتواصل الحديث عنها منذ سنوات طوال وفي مقدمتها نقص عدد المساجد وتوزيعها جغرافيا على الأحياء التي يقطنها مسلمون. هو حق لا شك فيه أكده في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، الشيخ نفيع الله عشيروف رئيس الإدارة الدينية لمسلمي الجزء الآسيوي والرئيس المناوب لمجلس المفتين في روسيا، حيث كشف الشيخ عشيروف عن الكثير من الممارسات الخاطئة لأهالي تيكستيلشكي ومناصريهم ممن يحاولون فرض رؤاهم زاعمين أنهم أصحاب الأرض الأصليون وعلى القادمين الوافدين الامتثال والسمع والطاعة وكأنهم لاجئون لا حق لهم. وطرح الشيخ عشيروف في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» ضرورة مراعاة حقوق المسلمين وتلبية مطالبهم في بناء المساجد لإنقاذهم من حتمية أداء الصلاة في الشوارع المجاورة للمساجد في أيام الجمع والأعياد الدينية بسبب نقص المساجد في أحيائهم السكنية، وقال إن نقص المساجد مشكلة من الصعب السكوت على استمرارها في ظروف موسكو المناخية غير الملائمة ولا سيما في الشتاء بسبب برودة الجو واستمرار تساقط الأمطار والثلوج التي تحول دون أداء الصلاة في الشوارع. وحين واجهناه بما قاله الشيخ الدار علاء الدينوف حول طلب السماح للمسلمين بأداء صلواتهم في الكنائس التي زعم أنها تخلو من روادها ضحك قائلا: «إنه كان يمزح».

واجهنا الشيخ نفيع الله بأنه لا مجال للمزاح في مثل هذه الأمور. إنه تصريح بالغ الخطورة قد يضرم النيران ويشعل حربا لا طاقة لأحد بتحمل تبعاتها وكفى المسلمين شرور العمليات الإرهابية التي كثيرا ما يتورط فيها أناس من ذوي العلاقة بالإسلام والمسلمين!. ورغم أنه وافق على ذلك، فإن أحدا لم يتخذ بعد ما من شأنه توعية رجال الدين وإقناعهم بتبني الخطاب الديني الملائم في مثل هذه المجتمعات المتعددة الأعراق والمتباينة الأديان وشجب تعليقات أصحاب المعارف الدينية المنقوصة الذين يجوبون شوارع وأسواق موسكو في هيئة تثير الكثير من تعليقات السخرية والإدانة. وتطويرا لذات التوجه أعلن الشيخ فاتح عارفولين (العارف بالله) في مؤتمر المؤسسات الدينية في موسكو أن العاصمة الروسية وحدها في حاجة إلى بناء 150 - 200 مسجد بسعة 400 - 500 مصل يمكن أن تفي بمتطلبات المسلمين، محذرا من أن رفض تلبية احتياجات المسلمين لا بد أن يسفر عن تفاقم المشكلة. ورغم أن العمدة السابق للعاصمة يوري لوجكوف سبق واعترف بوجود المشكلة ووعد بالعمل على حلها، فإنه لم يف بما وعد به مما يزيد من وطأة المشكلة ويدفع مسلمي العاصمة إلى الجنوح نحو محاولات البحث عن حلول ذاتية كثيرا ما تصطدم بمعارضة الآخرين ممن راحوا يجمعون التوقيعات احتجاجا على بناء المسجد، متذرعين بمختلف الحجج التي تضمنت حاجة سكان المنطقة إلى مساحة خضراء تصلح للنزهة مع كلابهم التي يقولون إن المسلمين يتأففون منها حسب عريضتهم التي تقدموا بها إلى رئيس بلدية المنطقة فلاديمير زوتوف مما دفعه إلى التراجع عن قراره بتخصيص الأرض وإعلان أنه لن يسمح بذلك دون موافقة سكان المناطق المجاورة ودون أن يطرح الحلول المناسبة في وقت يتحدث فيه العامة والخاصة عن تخصيص الأراضي لأناس بعينهم وهو ما كشف عنه النقاب في معرض الحديث عن الفساد وعلاقة عمدة موسكو بما سموه فضائح شركة «إنتيكو» للعقارات والأراضي التي تملكها زوجته.

وفي ظل مثل هذه الأجواء تتعالى التعليقات الشوفينية النازية في جوهرها، من جانب المتطرفين من أصحاب الأرض من سكان العاصمة الذين يطالبون بطرد «الغزاة التتار» على حد وصفهم للمسلمين من التتار الذين سبق وحكم أسلافهم روسيا لمدة تقرب من مائتي عام وحتى غزو إيفان الرهيب لقازان عاصمة جمهورية التتار في مطلع القرن السادس عشر. راح هؤلاء يبحثون في التاريخ عما يفسد عليهم وعلى أبناء الوطن الواحد حاضرهم ومستقبلهم. وعلى الجانب الآخر نجد ممثلي القوميات القوقازية من أبناء موسكو التي استوطنوها أبا عن جد يقفون مكتوفي الأيدي أمام تفاقم مشكلات الهجرات الجماعية لأبناء الجمهوريات الجنوبية ممن يتوافدون على العاصمة بحثا عن الرزق وتحت وطأة العوز والحاجة وتردي الأوضاع الاقتصادية وتفاقم ظاهرة البطالة في تلك البقاع. وإذا أضفنا إلى ذلك تدني ثقافة الحوار لدى الكثيرين من الوافدين وسلوكهم غير المتحضر في أغلب الأحيان الذي يقابله تطرف عدد من الشباب الروسي من ذوى التوجهات العنصرية المعادية لكل ما هو غير روسي، فإننا نكون أمام مقدمات تقول كلها بتزايد احتمالات المواجهة وهو ما يفرض سرعة تدخل العقلاء والمسؤولين للبحث عن حلول سريعة لمواجهة الأزمة واحتواء تداعياتها.