انتشار واسع لورش تصنيع آلة العود في المدن السورية

رغم قلة عدد المصنعين بالطريقة اليدوية الأصيلة

أبو إبراهيم.. بين أعواده («الشرق الأوسط»)
TT

ما زال لآلة العود الموسيقية الشرقية الأصيلة جمهورها الضخم من «السمّيعة» الشغوفين، كما أنه يوجد عدد كبير من العازفين عليها من جيل المخضرمين. غير أن الجديد والمشجع هو ظهور إقبال كبير من جيل الشباب في الفترة الأخيرة على تعلم أصول العزف على العود، وانتشار تعليمه في عشرات المراكز التدريبية الموسيقية الخاصة والعامة في مختلف المدن السورية.

ومن ناحية ثانية، وبالتوازي مع هذه الظاهرة، تنتعش حاليا في أسواق دمشق ومدن سورية الأخرى تجارة آلة العود المصنعة بشكل آلي في حين يتناقص عدد المصنعين بالطريقة اليدوية التقليدية، بسبب فارق السعر. فثمن العود المصنع يدويا أعلى من سعر مثيله آلي التصنيع. الحرفيون السوريون اليدويون أتقنوا عبر أجيال إنتاج أجمل الآلات، التي حرصوا على أن تحمل بصماتهم، واستلهموا تصاميمها وزخارفها من الأجيال التي سبقت. واليوم تُسعِد من يقدر الفن الشرقي عندما ينظر إلى عود وقد حوَّلته زخرفتُه الخارجية بالموزاييك والصدف الملون مع التطعيم بالنحاس وخيوط الفضة إلى لوحة فنية حقيقية.

من مصنعي الأعواد، الذين يحولون هذه الآلة الموسيقية إلى تحفة فنية مرصعة، والذين ورثوا المهنة عن الأب والجد من قبله، أنطون إبراهيم طوني، الملقب بـ«أبو إبراهيم». ولقد التقته «الشرق الأوسط» ليحدثنا عن حياته المهنية، وعن مزايا صناعة العود يدويا، فقال: «تعلمت هذه المهنة من والدي الذي كانت لديه ورشة في منزلنا، وتمكّنت من التصنيع منذ ثمانينات القرن الماضي حين عملت بها إلى جانب تصنيع أدوات موسيقية أخرى، أيضا بالطريقة اليدوية، منها الإيقاع (الدربكة) والطبلة والمزهر والناي والكمنجة (الكمان).. وغيرها. وبالنسبة إلى صناعة العود، وهو آلة قديمة جدا، فإنه كان يصنع قبل دخول الكهرباء لسورية بطرق يدوية بدائية، واليوم ما زالت بعض مراحل تصنيعه تجرى يدويا فقط».

وتابع «أبو إبراهيم» شرحه مقارنا ما بين تصنيع العود سابقا وحاليا، فقال: «كان آباؤنا يقطعون الخشب اللازم للعود على الماء، وفي عام 1925 دخلت الكهرباء إلى دمشق فصاروا يستخدمون الآلة لتقطيع الخشب، وهذا ما جعل فترة إنتاج عود واحد تنخفض من شهر إلى ثلاثة أيام. واليوم ما زلنا نستخدم الخشب كمواد أولية لتصنيع العود، وبالذات خشب الجوز، كونه يتميز بالصلابة والجودة وهو ذو شكل جميل. ومن الممكن إضافة نوع خشبي آخر كناحية جمالية فقط مثل خشب الورد، لكن المهم هنا خبرة الحرفي ومهارته في تصنيع العود، وتسير مراحل صناعة العود حسب أجزائه الخمسة، وهي: الظهر والصدر والزند وبيت المفاتيح والفرس الذي يوضع على الصدر وتشد الأوتار بواسطته. فبعد الحصول على خشب الشجرة وتركه لمدة سنتين تقريبا حتى يصبح على شكل يسمى (لاطة) ويصير جاهزا للقص والنشر، نباشر تشريحه على شكل سبايط - أو أضلاع - وتترك الخشب لفترة من الوقت حتى يجف، ومن ثم نباشر حنيه بطرق بدائية بواسطة الماء والبخار لكي لا تتأثر الأخشاب بالعوامل الجوية عند تحويلها لآلة موسيقية، وهذه هي الميزة المهمة للتصنيع اليدوي. وتأتي بعد ذلك المرحلة التالية وهي لصق السبايط بواسطة الغراء المحوّل من جلود البقر والذي تبيعه الدبّاغات ويكون مادة صلبة. ويجري إنجاز قفص العود الخشبي بهذا الشكل ليصار في ما بعد تصنيع الوجه - المسمى (الصدر) - الذي يتضمن عوارض خشبية من الداخل، ووظيفتها ربط الصدر بالظهر وتوزيع الصوت. ولهذه العوارض مجموعة من الخصائص من أهمها كيفية توزيعها بشكل فني ليخرج الصوت بالشكل المطلوب. كذلك تفتح فيه فتحات تحفر وتنجّر بشكل متوازن ومتناسب مع العود وحسب حجمه. فهناك القياس الكبير والقياس الأصغر المسمى (ثلاثة أرباع) والصغير المسمى (النصف). والعود الدمشقي ذو قياس (ثلاثة أرباع) وميزته بجودته وإتقان صنعه وتراثيته... إذ لم يكن يخلو بيت عربي شامي تقليدي منه، بل إنه كان من الضروريات لا الكماليات، وكان أهل البيت يعزفون عليه في سهراتهم، وحتى نساء الحارة كن يعزفن في لقاءاتهن على العود وعلى الطبلة لتحويل الجلسة إلى سهرة تسلية ومرح. وبعد ذلك نبدأ بتصنيع الساعد والمسمى «الزند». أما بالنسبة للأوتار، فكان أجدادنا في السابق يستفيدون من الطبقة الثالثة من أمعاء الحيوان لتحويلها إلى أوتار للعزف الموسيقي، وكانت مدينة حلب المصدر الرئيسي لهذه الأمعاء الحيوانية، وكانت هذه تصدّر إلى أوروبا في خمسينات القرن المنصرم وتعاد مصنعة على شكل أوتار. والجدير بالذكر أن لدى الأوروبيين خبرة واسعة في هذا المجال، كما هو الحال مع آلة الغيتار الموسيقية، حيث لكل وتر خصوصيته ووظيفته ودرجته الموسيقية كالري والسي والصول وغير ذلك».

«أبو إبراهيم» أعاد عبر ورشته إحياء فن تصنيع العود الدمشقي، الذي كان يتميز بأسلوب خاص مختلف عن غيره من الأعواد الموسيقية المصنعة في عدد من البلدان من خلال فنان وحرفي دمشقي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اسمه عبده النحات. وكان عبده النحات هذا نجار موبيليا وهو الذي صنّع أول عود دمشقي عام 1879م، وما زال محله موجودا في حي القيمرية بـ«دمشق القديمة»، وتوجد نماذج من أعواده العريقة معروضة في متاحف فرنسية وتركية وإسبانية وإيطالية كقطع تراثية. وأردف: «تصور - يوضح (أبو إبراهيم) باندهاش وهو يقدم معلومة عن عبده النحات - وصل ثمن عوده إلى خمس ليرات ذهبية، وهو مبلغ كبير جدا في ذلك التاريخ (كان المبلغ يعادل ثمن بيت في دمشق؟). وميزة العود الدمشقي أنه يبقى لأكثر من مائة سنة من دون أن يتغير أي شيء من مكوناته، وتوجد أعواد عمرها 120 سنة وما زال بالإمكان العزف عليها. ثم إنه يحافظ على وضعه، بل يصبح صوته أجود كلما ازداد عمره من دون أن يتأثر بالعوامل الطبيعية... وهنا سر العود الدمشقي».

«أبو ابراهيم» تابع قائلا: «السر بشكل رئيسي يكمن في وضع الحرفي الدمشقي روحه في الآلة الموسيقية التي يصنعها ولا يسمح لأي خطأ أن يحصل أثناء مراحل تصنيعها، فتأتي آلة متقنة جدا. كما أنه كان يصنع من التزاوج ما بين نوعين من الخشب، وهما: الجوز والليمون، مما أعطاه ميزة إضافية، وهذا ما فعله عبده النحات في أول عود صنعه. كذلك من خصوصية العود الدمشقي تلبيسه بالموزاييك منذ أوائل القرن الماضي عندما اكتشف الدمشقي جورجي البيطار زخارف الموزاييك».