«القراموص».. قرية مصرية تزرع البردي وتصنعه بطرق بدائية

تنتج 60% من إجمالي إنتاجه.. ويصنع داخل غرف صغيرة بمنازلها

TT

رغم اختفاء استعمال ورق البردي منذ القرن العاشر الميلادي، فإن قرية القراموص المصرية، التي تقع عند أطراف مدينة أبو كبير، التابعة لمحافظة الشرقية (80 كم شمال شرقي القاهرة) بثت الحياة فيه من جديد. فالمئات من سكان القرية يكسبون قوتهم اليومي من العمل في زراعة نبات البردي وصناعة أوراقه، التي تشتهر بها القرية منذ نحو 20 سنة، حين بدأت تجارب زراعة نبات البردي بفضل أحد الأساتذة المتخصصين في زراعته.

تنتشر حقول نبات البردي في أرجاء القرية، بينما تعمل في صناعة ورق البردي النسبة الأكبر من سكانها، الذين لا يعرفون مهنة أخرى غيرها، على الرغم من أن أعدادا كبيرة منهم من الحاصلين على مؤهلات جامعية في تخصصات مختلفة. فغالبية منازل القرية تضم حجرات مخصصة لهذه الصناعة. إذ يزرع الأب النبات ويتولى تسويقه إلى التجار وبيعه إلى المطابع المختلفة، أما الأبناء والزوجة فيعملون في تقشيره، ويقومون برص الشرائح واحدة تلو الأخرى بإتقان شديد.

«زراعة نبات البردي ليست مرهقة، ولا تحتاج إلى تكاليف باهظة، كما يظن البعض، بل بالعكس فهي تجارة مربحة إذا احترفت بشكل جيد»، هذا ما يقوله أبو الوفا عبد المنعم، أحد المزارعين بالقرية، مضيفا أن «ورق البردي يمكن التحكم في طوله وعرضه، وتتنوع وتتعدد مقاساته على حسب استخداماته. وله مقاسات كثيرة حسب طلب التاجر، فقد يصل طوله إلى ثلاثة أمتار، كما أن منه نوعا داكنا وآخر فاتح اللون».

ويشير أبو الوفا، الذي يحمل شهادة جامعية في المحاسبة، إلى أن نبات البردي «نبات مائي وصيفي يحتاج لمياه كثيرة، مثل الأرز، وأيضا لدرجة حرارة عالية. ولذا فزراعته في الصيف تكون أفضل وأجود إنتاجا من الشتاء. ويضيف «القراموص تنتج أكثر من 60% من إنتاج مصر كلها من نبات البردي، الذي تنتشر زراعته في معظم نواحي القرية، وعلى مساحات شاسعة من الأفدنة، ويتميز هذا النبات بعيدانه الطويلة والرفيعة نسبيا، فقد يصل طوله إلى ثلاثة أمتار، وعرضه إلى عدة سنتيمترات، ولونه أخضر، ويوجد في نهايته ما يشبه الزهرة ويطلق عليها المزارعون اسم (شوايشي)، وهي تستخدم كغذاء وعلف للمواشي التي يربيها الأهالي بجوار منازلهم».

يزرع نبات البردي بطريقة بدائية عبر زرع الشتلات في الأرض ثم غمرها بالمياه. ثم يحصد النبات بعد نحو شهرين إلى ثلاثة أشهر حين تكون العيدان قد نضجت وأصبحت سميكة. ويجري الحصاد عن طريق قطع النبات بالسكين أو المنشار، وليس جذبه، وذلك لضمان خروج شتلة أخرى بجواره، ثم يصار إلى تقطيع النبات بمقاسات مختلفة بحسب مقاس الورقة التي ستصنّع.

ويشرح أبو الوفا «العود يقطع بالعرض، ثم تأتي مرحلة (التشريح) حين يقسم العود إلى عدة شرائح بعد إزالة القشرة الخضراء بواسطة خيط حاد. ثم تبدأ مرحلة (الغمر) وهى عبارة عن وضع شرائح البَردي المقطعة في حوض به صودا كاوية (قطرون) لمدة خمس أو ست ساعات لكي يلين العود الذي يكون صلبا بعض الشيء. وبعد ذلك تستخرج الشرائح من الصودا الكاوية وتوضع في حوض فارغ، ثم تغمس في الكلور، حيث يتم التحكم بلون الورقة من خلال كمية الكلور، فإذا كانت مطلوبة بيضاء يجب تركها فيه لساعات أكثر».

ويواصل «تأتي بعد ذلك مرحلة الرص، فبعد استخراج البردي من الكلور يصار إلى رصه واحدة بجوار الأخرى بشكل متلاصق على قطعة قماش حتى نهاية الورقة، ثم يباشَر من جديد، لكن هذه المرة يجري الرص بعكس اتجاه الرص الأول. ثم تأتى مرحلة (الكبس)، وفيها يوضع الورق بعضه فوق بعض بعد لف كل ورقة داخل قماشة بمفردها ووضعها على (المكبس) حتى تفرغ ما بدخلها من مياه، تليها مرحلة (التجفيف) وهي آخر مراحل التصنيع ومعها توضع القماشة التي فيها الورقة تحت المكبس وهي موضوعة على ورق كرتون الذي يتشرب الماء، ويُغيّر الكرتون خمس مرات حتى تجف الورقة تماما».

ينتج أبو الوفا أكثر من 4 آلاف ورقة بردي في الشهر الواحد، ويبيع الورقة الواحدة بـ 70 أو 80 قرشا، ويقول «أزرع الشتلة وأتابعها بشكل دوري، وتساعدني زوجتي وبناتي في صناعته، كما يعمل معي سبعة أفراد آخرين معظمهم من خريجي الجامعات، وأتعامل مع أحد التجار بمدينة القاهرة، منذ عدة سنوات، هو من يشتري إنتاجي»، موضحا أن صناعة ورق البردي تتحكم فيها حركة السياحة، وتخضع للعرض والطلب، إضافة إلى أنه لا سعر محددا لورق البردي، بل يرتبط بمدى انتعاش الموسم السياحي المصري. أما المزارع إسماعيل أنور، فيوضح أنه يهتم كثيرا بطريقة زراعة البردي وصناعته لأنه مصدر رزقه الوحيد، مطالبا الجهات الحكومية بالاهتمام بزراعة البردي وتدعيم صناعته عبر منح العاملين بها قروضا وتسهيلات ضريبية.. «فإنتاج البردي من أهم الصناعات التي تميز مصر عن سائر البلدان»، مبينا أن لهذه الزراعة فوائد كثيرة، فأهالي القرية يستخدمون مخلفات البردي كنوع من الوقود للفرن الريفي (الجرن)، ويستفاد من بعض أجزاء النبات التي يُستغنى عنها كعلف للمواشي.

ويوضح أنور أن الطريقة البدائية لتجهيز أوراق البردي تتابع في طباعته أيضا داخل مطابع صغيرة تقع داخل منازل السكان، وتضم عددا من الرسوم الفرعونية القديمة التي تطبع على الورق بالحبر الملون. وتستخدم معظم هذه المطابع الرسوم الجاهزة وتتولى طباعتها «لأن الرسوم اليدوية تكلف كثيرا وتحتاج لوقت أطول وحرفية أكثر»، مشيرا إلى زيادة عدد العمال في هذه المطابع بزيادة الطلب على ورق البردي وانخفاضها في حالة الركود السياحي.

وأما خالد محمد، وهو صاحب مطبعة في القرية، فيذكر أن في القراموص 6 مطابع خاصة بورق البردي، تعتمد على طريقتين للطباعة.. الأولى هي «الطباعة بالحرير»، وهي عبارة عن إطار خشبي بحجم الورقة المطبوعة ويشد عليه حرير صناعي، ثم تبدأ عملية تصوير الشكل بنقل الشكل على ورق «كلك» كما هو الشكل عند الفراعنة بالألوان ذاتها.. والطريقة الثانية «الشبلونة»، وتستخدم لوحا شفافا محددا بإطار خشبي يدهن بمادة جيلاتينية.. وتجري عملية الطباعة بنقل الصورة «المنظر الفرعوني» من على «الشبلونة» إلى ورق البردي، وتأتى بعد ذلك مرحلة التلوين. ويشير إلى أنه يبيع إنتاجه لتجار البَردي القاهريين، خاصة في سوق خان الخليلي، حيث يقبل على شرائه السياح الأجانب بالدرجة الأولى وبعض المصريين والعرب المقدرين لهذا الفن التراثي، وما يحمله من أصالة الماضي، وبما يمثله من رمز لعصر الفراعنة، ويحدد سعر الورقة حسب جودتها والموسم السياحي.