مناحي الإصلاح والتجديد في فكر الدهلوي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

إذا كان معلوما أن العصر الذي يولد فيه الإنسان، والعالم الذي يحيط به، والمجتمع الذي ينشأ في أحضانه، هو بمثابة النهر الجاري الذي تتصل فيه كل موجة بسابقتها؛ فلا مناص من التعرض لعصر المجددين ومراعاة الظروف التاريخية، السياسية والاجتماعية، التي أحاطت بدعوتهم وأثرت - سلبا أو إيجابا - على طريقة تفكيرهم ومواقفهم؛ بما لها من دور أساسي في تكوين عقليتهم وثقافتهم، وتحديد رؤيتهم للأمور وحكمهم عليها.

وإذا كان معلوما أيضا أن شاه ولي الله الدهلوي قد ولد سنة 1114 هجرية، وتوفي سنة 1176 هجرية، فإن ذلك يعني أنه عاش لمدة 62 عاما توالى فيها على عرش الخلافة العثمانية خمسة سلاطين، واندلعت في عهد أحدهم (مصطفى الثالث المتوفى سنة 1187هـ) الحرب ما بين روسيا والخلافة العثمانية، التي انتهت بهزيمة العثمانيين عام 1769م.

أما بالنسبة لتكوينه الفكري؛ فقد تخرج الشيخ على يدي والده المتوفى 1131 هجرية، ثم تولى مسنده من بعده لمدة اثني عشر عاما. في حين انتشرت المطابع في الدولة العثمانية حين كان الدهلوي لا يزال شابا بعد، كما ظهرت في الوقت ذاته حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية (1115 - 1206هـ). ومن الثابت تاريخيا أن الدهلوي قد سافر لأداء فريضة الحج عام 1142هـ، وأقام في الحرم الشريف لمدة عام كامل، وعندما رجع إلى موطنه أخذ في تدريس علوم الحديث الشريف في المدارس الرحيمية (نسبة إلى والده)، في حي مهنديان بدلهي القديمة.

ونظرا لتأثره الشديد بوالده الشيخ عبد الرحيم ألف الدهلوي كتابا في حياة أبيه سماه «بوارق الولاية» المعروف بـ«أنفاس العارفين»، تحدث فيه عن فضائله ومناقبه وشيء من نسبه وكراماته (يعود نسب الإمام الدهلوي إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه).

وإذا استعرضنا المؤلفات التي تربى عليها الدهلوي، بحسب ما أتى على ذكرها، فسوف يتبين لنا طبيعة تركيبته الثقافية العميقة، إذ يقول في كتابه «الجزء اللطيف»: «وقرأت من الفقه شرح الوقاية والهداية، ومن أصول الفقه الحسامي وطرفا صالحا من التوضيح والتلويح، ومن المنطق شرح الشمسية كله، وقسطا من شرح المطالع. ومن الكلام شرح العقائد كله، مع جملة من حاشية الخيالي، وشيئا من شرح المواقف، ومن السلوك (التصوف) قطعة من العوارف، وبعضا من الرسائل النقشبندية وغيرها، ومن الحقائق شرح الرباعيات لمولانا الجامي، واللوائح ومقدمة شرح اللمعات ومقدمة نقد النصوص، ومن خواص الأسماء والآيات (التفسير) المجموع الخاص لذاته، والفوائد المائة وغيرها، ومن الطب الموجز، ومن الحكمة شرح هداية الحكمة، ومن النحو الكافية وشرحه للجامي، ومن المعاني (البلاغة) المطوَّل.. إلخ.

ونتيجة لثقافته العالية، ترك الدهلوي أكثر من تسعين مؤلفا موزعة على علوم الدين المختلفة: التفسير، والأصول، والفقه، والحديث، والكلام، والحقائق والمعارف، والسلوك، والسيرة، والتاريخ، والفلسفة، والشريعة. على أن أهم مؤلفاته قاطبة هو «حجة الله البالغة» بالإضافة إلى كتابيه: «إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء»، و«أنفاس العارفين».

ومن خلال استعراض مآثر الشيخ التجديدية يبدو لنا سعة دائرة الإحياء أو التجديد التي قام بها وتنوعها، حيث توزعت جهوده الإصلاحية لتشمل كلا من: إصلاح العقيدة عن طريق الدعوة للرجوع إلى الكتاب والسنة، والوعظ الديني والإصلاح الاجتماعي العام، والتوفيق بين الحديث والفقه، والكشف عن مقاصد الشريعة، والدفاع عن نظام الخلافة الإسلامية، والدعوة إلى الجهاد في عصر الفوضى السياسية واحتضار الدولة المغولية، ونقد التيارات السائدة في عصره، ومحاربة الجمود والتقليد، وإعداد القادة والدعاة عبر القيام بالتوجيه والتدريس.. إلخ.

وفي الواقع، يحتل جانب إصلاح العقائد المكانة الأسمى من بين اهتمامات ولي الله الدهلوي التجديدية، انطلاقا من إيمانه الراسخ بأن إصلاح الأمة وتجديد الدين في أي عصر أو مصر لا بد وأن يبدأ بإصلاح العقيدة أولا، وإلا فإنه لا يعدو خطا على الماء ومبنيا على غير أساس.

ويخلص الدهلوي إلى أن دراسة القرآن وفهمه يعدان بمثابة أقوى الطرق وأكثرها تأثيرا لعلاج فساد العقيدة وانحرافها. ويبدو أنه قد تأثر في هذا الجانب كثيرا بالدعوة الوهابية التي عاصرها أثناء رحلته إلى البيت الحرام. ومما له دلالة في هذا السياق أن أول ما بدأ به الشيخ ترجمته للقرآن باللغة الفارسية تحت عنوان «فتح الرحمن».

وبحسب ما يذكر أبو الحسن الندوي، فإن الدهلوي اطمأن بعد عودته من الحجاز بخمسة أعوام (ولعل ذلك بعدما شاهد من نتائج الجهود المبذولة لإصلاح العقائد عن طريق التدريس للخاصة، وإلقاء الدروس العامة، والوعظ والإرشاد) إلى أنه لا طريق أبلغ وأقوى تأثيرا للإرشاد العام وإصلاح العقائد من نشر تعاليم القرآن الكريم وإرشاداته ودعوته وتبليغها إلى الناس بطريقة مباشرة.

وعلاوة على التراجم الأردية للقرآن الكريم التي قام بها لاحقا الشيخان عبد القادر الدهلوي (ت 1230هـ) ورفيع الدين الدهلوي (ت 1233هـ)، قام ولي الله الدهلوي بإلقاء دروس القرآن شرحا وتفسيرا، وقد استمر على نفس النهج أكبر أبنائه، المضطلع بأعباء أعماله الإصلاحية التجديدية بتوسيع نطاقها واستكمالها، الشيخ عبد العزيز الدهلوي (ت 1239هـ) وذلك لمدة ثلاثة وستين عاما.

ومن أهم الكتب التي خلفها الدهلوي الأب في هذا المجال كتابه «الفوز الكبير في أصول التفسير»، الذي درس فيه مقاصد القرآن ومواضيعه وخصائص أسلوبه ومناهجه، وأسباب النزول.. إلخ. كما أولى اهتماما بارزا بمسألة التوحيد وحقيقة الشرك، مؤكدا أن الطبقة الكبيرة من العامة قد فهمت حقيقة الشرك على أنه إشراك كائن ما مع ذات الله تعالى على قَدَم سواء، أما نسبة بعض صفات الله تعالى إلى بعض عباده المقربين، وتوليتهم بعض أمور القدرة المطلقة، فكل ذلك لا ينافي عندهم التوحيد ولا يرادف الشرك! موضحا أن هذا تلبيس جر كثيرا من أفراد هذه الأمة (الصوفية بخاصة) إلى حِمى الشرك المحرمة، بحيث تخطو الخط الأخير الذي هو الحد الفاصل ما بين الشرك والتوحيد.

وتأكيدا على هذا المعنى يقول في كتابه الفوز الكبير: والشرك هو إثبات الصفات الخاصة بالله تعالى لغيره، مثل إثبات التصرف المطلق في الكون، بالإرادة المطلقة، التي يعبر عنها بـ«كن فيكون»، أو إثبات العلم الذاتي الذي يحصل بالاكتساب عن طريق الحواس، والدليل العقلي والمنام والإلهام.. وهؤلاء المشركون لا يعرفون مع الله تعالى شريكا في خلق الجواهر (أصول المادة/العالم) وتدبير الأمور العظام، ويعترفون بأنه لا قدرة لأحد إذا أبرم الله تعالى شيئا وقضى، أن يمانعه ويقف دونه، إنما كان إشراكهم في أمور خاصة ببعض العباد.

وبذلك يكون الدهلوي قد تابع خطى ابن تيمية في شرح العقائد وعرضها وفق منهج السلف الصالح، وهو يقوم على الجادة المتوسطة بين كل من «التأويل» و«اللفظية»، بحيث يجمع في كتابه «العقيدة الحسنة»، المنشور لاحقا باسم «العقيدة السنية»، بين عمق الدراسة وسهولة العبارة على النحو الذي تميزت به أيضا وصيته «المرآة الوضيئة في النصيحة والوصية»، التي جاء فيها:

«وصية هذا الفقير الأولى أن يتمسك المسلم في العقائد والعمل بالكتاب والسنة ويعضّ عليهما بالنواجذ، ويعمل بهما دائما، ويختار في العقائد منهج المتقدمين من أهل السنة، ويُعرض في باب الصفات والآيات عن المتشابهات التي لم يخض السلف في تفصيلها والبحث فيها، ولا الالتفات إلى تشكيكات العقلانيين المتكائسين». وبعد وفاته مضى ابنه عبد العزيز في الاتجاه نفسه، على نحو ما سنفصل فيه القول لاحقا.

* كاتب مصري