فرانشيسكو غريكو.. الإيطالي الأخير في الإسكندرية

حفظ دروبها على مدى 70 عاما وعمل كهربائيا في طفولته وانتخب نائبا في برلمان بلاده

د. فرانشيسكو جريكو
TT

هذا الرجل يمثل تلخيصا لمسيرة الجالية الإيطالية بالإسكندرية، فخلجات صوته الهامس الحنون تختزل حكاياتها وذكرياتها وأسرارها، وذكريات تمتد على مدى أكثر من 70 عاما من العيش بين دروبها وظلالها.

وجاهة وأناقة لا تخطئها العين، تتوجها خصلات شعره الفضية المصففة بعناية، لتذكرك بنجوم الشاشة الفضية في سبعينات القرن الماضي، هيئة تنم عن ثقة واعتزاز بأصل وتاريخ متميز، إنه الإيطالي الدكتور/ فرانشيسكو غريكو الشهير بين «السكندريين» بـ«فرانكو».

يفتخر فرانكو عند تعرفك إليه بأن اسمه يدل على نشأته وخلفيته الثقافية الكوزموبوليتانية، فمعنى اسمه بالعربية «الفرنسي اليوناني» رغم أصوله الإيطالية وجذوره الصقلية. وهو أمر لن يخفى عند التحدث إليه حيث تجمع كلماته بين العربية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية واليونانية.

فرانكو، 78 عاما، هو أحد أشهر الإيطاليين المصريين الذين ولدوا بالإسكندرية، وهو بروحه المرحة وأناقة أسلوبه في التعامل جعلت منه صديقا للكبار والصغار من مختلف الجنسيات التي تعيش حاليا في الإسكندرية.

يعمل الدكتور/ فرانشيسكو غريكو، مديرا لمركز ANPIE للدراسات اللغوية والترجمات العربية والإيطالية بالإسكندرية، وهو أيضا مؤسس جمعية «إيطاليي مصر» وعمرها 30 عاما.

التقته «الشرق الأوسط» للحديث عن مشروعه الثقافي الطموح النابع من عشقه وحبه للإسكندرية.

ما أن تجلس إلى فرانكو فستكتشف عشقه للتاريخ المصري وإلمامه الدقيق بشتى تفاصيله، فهو مهتم بتاريخ الجالية الإيطالية في مصر، وبالأخص منذ عهد محمد علي باشا. يتحدث فرانكو بلهجة «سكندرية» تخلو من حرف الضاد الذي يحاول التمرس على نطقه حتى الآن، يقول: «أنا أقرأ عربي كويس مثل الإيطالي والفرنساوي والإنجليزي، صحيح أنا أتكلم مكسر شوية كتير، شوية (بظرميت)، لكن أنا إسكندراني من مواليد الأزاريطة سنة 1932، أنا أكبر إخواتي الستة كنا 3 ولاد و3 بنات، وكل العيلة كانت تعيش هنا، وأمي كمان هي صقلية بس ولدت هنا سنة 1906، وكانت مشهورة عند الجيران بالبيتزا السوشيليانا، فيها الأنشوغة والزيتون».

يستكمل: «كان في 330 ألف نسمة في الإسكندرية وكان الإيطاليون 15 ألفا وكان اليونانيون 25 ألفا، و10 آلاف يهودي وأرمني وإسباني، وكان عدد الأجانب يساوي نسبة 40% من السكان، وكانت بصحيح مدينة كوزموبوليتان وكان فيه حرية أديان وكل طائفة ليها مكان الصلاة.. كنائس وجوامع ومعابد يهودية».

يعود فرانكو إلى ذكرياته: «الإيطاليون كانوا في مناطق كثيرة في إسكندرية الأزاريطة وفي بحري، ولسه فيه شوية أرمن ويونانيين. لكن الإيطاليين كانوا 28 ألف إيطالي حتى 1961، وبسبب التأميم هاجروا لإيطاليا».

وعن طفولته يقول: «لما كان عندي 12 سنة عملت كهربائيا، وكان معظم الإيطاليين يعملون في الأدوات الكهربائية، وأختي كانت تشتغل عند واحد أرمني اسمه «بابازيان» اللي بيفصل فساتين للملكة فريدة، وأختي الثانية كانت تشتغل مع أتيلييه في السلطان حسين وكان محل اسمه «سيسيل» يخص الباشاوات، لكن خالي كان دكتور أسنان كبير في شارع النبي دانيال».

يشير فرانكو إلى أن الإيطاليين كانوا جزءا من نسيج المجتمع وعامة الشعب المصري، قائلا: «كنا 60 ألف إيطالي قبل الحرب العالمية الثانية، مش كلهم جيش وضباط ولا كلهم مهندسون، لكن كان فيه ناس في مراكب بحري وأنفوشي لأنها كانت أكبر مينا بعد مارسيليا، ويوجد الحلاقين والمقاولات والكهربائيين، كنا من الشعب».

ويروي: «كنت أعمل مع واحد يهودي اسمه فيكتور كوهين في محل في شارع سعد زغلول بمحطة الرمل اسمه «ألبينتو ماستر فويس»، وعملت معه بعد لما صلحت أمامه مكواة وفرن وراديو».

ويقول ضاحكا: «مش مظبوط إن كلهم بخلاء، كان يبعتني شغل في نادي المكابي اليهودي كنت أصلح النور وأوصل الأسلاك والسماعات علشان الحفلات والرقص، لأنه زمان مش كان فيه أوبرا، وكانت تيجي فرق ومغنيين من أوروبا. وكان المحل بتاع كوهين أول واحد يجيب اللمبة النيون، وبعدين قالي انت مش يعرف يركب اللمبات ديه، فرديت وقلت له أنا إيطالي يعني مايكل أنغلو وفولتا ازاي مش يعرف؟!».

يكمل: «كنت أمشي من الأزاريطة إلى الإبراهيمية، وسألني كوهين في مرة انت ليه اتأخرت ساعة ونص، قلتله إني مشيت، وسألني وهو عصبي ليه مش تاخد ترام بنص فرانك؟، قلتله مش معايا فلوس فأخدتها موتورجل لأني كنت أرفض البقشيش». ويستطرد: «كان كوهين طيب، وكان كل يوم سبت يديني 5 جنيه علشان نعمل بودي غارد علشان بنته لما تروح النادي المكابي، علشان كان بيخاف عليها من الشباب».

ويستكمل بابتسامة عريضة: «واحنا في العالمين بعد الحرب العالمية الثانية، كنا ناخد الراديو بتاع الطيارات الأميركاني، علشان نشغله في القهاوي وكان يحتاج 18 أو 20 فولتا، علشان الناس يسمع القرآن الكريم أو الأخبار».

ويتذكر متنهدا: «كان زوجة خالي وقرايب أمي يستغربون منين (تشيتشو) وهو اسم الدلع بتاعي، بيجيب فلوس ويلبس هدوم كويس، لكن ده علشان أنا كنت بشتغل، وأعمل ستريو ودي جي، وكنت أعمل حفلات تانغو ورومبا في النادي اليوناني واليهودي، كنت أصلح أجهزة البيك أب، وكنت أحط الانتينا الكبيرة على السطوح».

ويتحدث فرانكو عن حبه للأوبرا والفن قائلا: «عشت أيام جميلة في أوبرا إسكندرية وتياترو الهمبرا، وكان فيه فرق من أوروبا، لكن كنت أدخلها ببلاش ولا مرة دفعت، كنت أدخل من باب بتاع الكومبارس، أو أعمل نفسي بياع كلوريا أو الفريسكا بعد لما اشتري منها 10 قطع، وكان خالي يسأل أمي أزاي تشيتشو بيروح الأوبرا كل يوم منين بيجيب فلوس؟ كانت تقوله مش بيدفع ولا مليم».

وبفخر يقول: «حضرت حفل للمغني الأوبرالي الشهير جينوبيكي وبعدين قابلته في اليابان، بعد 30 سنة، وأنا شوفت جون كوكتو وجوزفين بيكر، وفي الخمسينيات غنيت مع ايتو كوردوني وكان مايسترو كبير بالإسكندرية وكان فيه الكونسرفتوار، وغنيت أمام الملك فاروق في مهرجان للهواة بالأوبرج اسمه جالا دي زاماتيور».

في 10 فبراير (شباط) 1945 قدمت الجالية الإيطالية في مصر حفل مع المايسترو كورودوني في المعبد الياهو حنابي، غنى فيه الإيطاليون تعويضا عما فعله موسوليني مع اليهود عام 1938. يضيف: «في هذا الوقت كان في كتير يهود معاهم جواز السفر الإيطالي ولا يقول إنه يهودي، لكن أنا كان عندي أصحاب كتير في حارة اليهود علشان كده فيه ناس زمان يفتكروني يهودي أقولهم أنا مش يهودي، يقولوا لي طيب بوس الصليب».

عاش فرانكو طفولته وشبابه بالإسكندرية ودرس في معهد الدونبسكو بها، وكانت أول مرة يسافر فيها لإيطاليا عام 1951 وعمره 19 سنة، وكان يشعر كغيره من المصريين الإيطاليين أنه مميز ومختلف عن الإيطاليين أنفسهم، فقد عاد المصريون الإيطاليون بلغات وثقافة ونشأة كوزموبوليتانية مما جعلهم يشعرون بأنهم مختلفون في الوقت الذي لم تكن فيه إيطاليا كوزموبوليتانية.

يكمل: «عملت في إيطاليا 10 سنين في شركة (إير فرانس) وكان عملي بالمطار، كانت هناك مسابقة للتوظيف في شركة (إير فرانس) وتم تعيين 10 مصريين إيطاليين من مصر ولم يكن فيه غير واحد إيطالي من تونس، كنا متميزين وكانت مصري إيطالي جنسية مهمة وعظيمة، وحصلت على عدة أوسمة في إيطاليا، بعدها قابلت زوجتي من روما، وهي ماتت من سنتين، وبعدين رجعت مصر سنة 1956 بسبب ماما وبابا يشوفوا زوجتي، وبعدين رجعت مرة تانية، وكنا نزور مصر كل سنة، حتى هاجر أمي وأبويا سنة 1959 لإيطاليا، ولما كان عمري 23 سنة درست القانون في سنتين بدل من 8 سنين، ودخلت حزب الديمقراطي المسيحي وأصبحت برلماني لمدة 30 عاما، لأمثل الوافدين في إيطاليا، واشتغلت في مركز دراسات حكومي».

ورغم انخراط فرانكو في الحياة السياسية الإيطالية فإنه لم ينس جانبه المصري، فقرر إنشاء جمعية «إيطاليي مصر» عام 1970، وهي هيئة تضم الإيطاليين الذين ولدوا في مصر أو الذين أقاموا بها لسنوات طويلة ثم اضطروا للرحيل عنها بسبب الحروب أو لأسباب سياسية أخرى، والجمعية تمثل الجالية الإيطالية منذ نشأتها لتبقى ذكراها حية.

يقول فرانكو: «الإيطاليون الذين غادروا مصر بعد الثورة ذهبوا لأستراليا وأرجنتينا، وتجمعوا وعملوا كلوب الإسكندرانية، ونحن في روما عملنا نادي وادي النيل، كلهم مصريون وأنا رئيس النادي، لكن في نابولي فيه نادي كلهم إيطاليون من إسكندرية، في اليونان كمان نادي للإسكندرانيين بس».

يوضح فرانكو أنه حاليا يحاول الضغط على الحكومة الإيطالية كممثل للمصريين الإيطاليين كجماعة ضغط للحصول على المعاش والبحث عن عمل لأولادهم باعتبارهم مواطنين إيطاليين لهم حقوق يدافعون عنها، ويطالبون الحكومة الإيطالية بالتأمين الصحي، ومعاش باليورو، خاصة أن هناك الكثير من المسنين الإيطاليين المصريين يعيشون في الملجأ الإيطالي بالإسكندرية ومن حقهم الحصول على هذا المعاش، كما هو الحال مع الإيطاليين في أي بلد من العالم.

وعن وجود الإيطاليين في الإسكندرية، يقول: «الإيطاليين موجود في مصر من سنة 1815 لأنهم هربوا من إيطاليا وقت الحرب، ومن سيطرة الكنيسة، كمان كان فيه كتاب إيطاليين من سنة 1500 في مصر ومنهم الكاتب بروسبير ألبيني، لكن حتى سنة 1700 كان العلماء في أوروبا كلها يكتبون باللاتينية»، ويضيف: «أنا نفسي أعمل ترجمة لكل الكتب اللي كانت في الوقت ده، لأن الإيطاليين حاليا مش يعرف أي حاجة عن تاريخهم هنا».

ويؤكد فرانكو أن 80% من الإيطاليين الذين عاشوا في مصر ولدوا فيها، مشيرا إلى أنه «في ثورة عرابي باشا كان معاه واحد إيطالي كبير يدعى دون كافللو. أما الفرنسيين فكانوا يأتون من الجزائر وتونس، في وقت كانت الهجرة منتشرة في العالم كله».

ألف فرانكو كتابا عن تاريخ الجالية الإيطالية في مصر حتى الحرب العالمية الثانية، وهو يرى أهمية أن يتعرف الإيطاليون على تاريخهم المشترك مع مصر ويتعلموا اللغة العربية ويتعمقوا في ثقافة البحر المتوسط التي تتميز بالحب والسلام والتفاهم. وهو يريد تأسيس مركز ثقافي وعلمي حتى يتمكن الإيطاليون من رؤية مصر بعيون مصرية، والعكس بالنسبة للمصريين أن يروا إيطاليا كالإيطاليين، ويريد توثيق تاريخ الجالية الإيطالية منذ عام 1882.

كما يعكف على تمويل مشروع ضخم للترجمة من الإيطالية للعربية والعكس. كما يعمل جاهدا لتعليم اللغة الإيطالية، وتفعيل الثقافة الإيطالية في الإسكندرية، من خلال أنشطة ثقافية وفنية. ويعكف حاليا على مشروع ترجمة لجريدة الوقائع المصرية إلى الإيطالية لأنها تحتوي على التاريخ المصري الإيطالي ضمن برنامج شراكة أوروبي مصري ثقافي.

ويسعى فرانكو من خلال مركز ANPIE للدراسات اللغوية والترجمات العربية والإيطالية، الذي يتولى إدارته حاليا، إلى الاهتمام بالأبحاث والوثائق المعنية بالدور الإيطالي في مصر بصفة خاصة، ودول البحر المتوسط بصفة عامة، وذلك في محاولة لاستعادة هذا الدور في ضوء إعلان برشلونة الداعي إلى تشجيع التعاون الأورومتوسطي في المجال الاجتماعي والثقافي والإنساني.