أحزاب فترة الحرب تنتقل إلى هامش الحياة السياسية في البوسنة

الانشقاقات تضعف الطائفتين المسلمة والصربية.. والكروات مهددون بعدم المشاركة في الحكم

زعماء الطوائف الثلاث (من اليمين) الصربي ميلوراد دوديك والمسلم سليمان تيهيتش والكرواتي دراغان كوفيتش خلال اجتماع لهم بسراييفو في 22 ديسمبر 2008 (رويترز)
TT

الاتحاد الكرواتي الديمقراطي، وحزب العمل الديمقراطي، (المسلم)، والحزب الصربي الديمقراطي، كانت هي الأحزاب السياسية الثلاثة التي خاضت حرب البوسنة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وشكلت لاحقا معظم الحكومات المتعاقبة، لكنها اليوم تجد نفسها مهددة بالإبعاد من الحكم على الرغم من أن نتائجها في الانتخابات التشريعية الأخيرة ليست كلها سيئة.

ففي الجانب الصربي، تراجع الحزب الديمقراطي الصربي، كثيرا ليحل مكانه اسم آخر هو «تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين»، بزعامة ميلوراد دوديك، الذي انشق عن الحزب الديمقراطي الصربي سنة 1997. ولجأت مؤسسة الحزب الديمقراطي بليانا بلافاشيتش، إلى بنيالوكا، هربا من بالي، معقل الحزب الصربي حاليا ومعقل الصرب أثناء الحرب، ثم ما لبثت أن همشت حزبها، بكشف الفساد الذي كان مستشريا بين قادته، ومن بينهم زعماؤه التاريخيون رادوفان كراجيتش، الذي يحاكم الآن في لاهاي بتهم جرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في البوسنة، وقائد قواته الجنرال راتكو ميلاديتش، الذي لا يزال في حالة فرار.

وفي المعسكر المسلم، تراجع زخم «حزب العمل الديمقراطي» الذي كان يرأسه الزعيم التاريخي الراحل علي عزت بيغوفيتش، ولكن ليس بدرجة كبيرة، على الرغم من أنه لم يكن الحزب الأول كما جرت العادة في الغالب في الانتخابات الماضية، بفعل عدة عوامل من بينها غياب القيادة الكاريزمية وذات الكفاءة في الوقت نفسه، وانشقاقات كثيرة شهدها على مدى السنوات الماضية، من بينها خروج الرئيس السابق حارث سيلاجيتش، وتكوينه حزب «من أجل البوسنة» الذي يعد هو الآخر من أكبر الخاسرين في الانتخابات التي جرت في 3 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وارتكاب بعض زعمائه أخطاء السياسية، كالتي اقترفها رئيس الحزب سليمان تيهيتش، قبيل الانتخابات كتصريحه بأن ضرب مفرزة عسكرية صربية سنة 1992 في سراييفو القديمة (فياشينيتسا) جريمة حرب، وموقفه من محادثات بوتمير وغيرها، إضافة للإشاعات التي يروجها بعض الخصوم ضد الحزب للنيل من شعبيته، التي طالت الحياة الشخصية لقادته ومنهم تيهيتش نفسه، وذلك وسط محيط تنتشر وتسري فيه الإشاعات، سريان النار في الهشيم. وكانت ثالثة الأثافي، قيام حزب جديد، هو حزب، اتحاد المستقبل الأفضل، بزعامة فخر الدين رادونجيتش، الذي حقق نتائجه من رصيد حزب العمل الديمقراطي، الشعبي.

وكان لطول بقاء الأحزاب التقليدية في الحكم من دون تداول للسلطة بين الأحزاب السياسية التي يصل عددها في البوسنة إلى 200، أغلبها إقليمية، انعكاسات على تردي شعبية الأحزاب التي خاضت الحرب في السنوات الخمس الأولى من القرن الماضي. وهو ما أبرز «الحزب الاشتراكي الديمقراطي»، كحزب مركزي، بعد تفتت الصوت البوشناقي التقليدي، الذي لم يكن كتلة انتخابية صماء، وإنما كان رمالا متحركة تؤثر فيها عوامل الوضع المعيشي، والمزاج المتغير، والأحلام الطوباوية، وتغيير الولاءات الحزبية، طمعا في التغيير نحو الأفضل، حتى وإن كان بتجريب المجرب، وعقد الأمل في فاشل قديم وإحلاله مكان فاشل جديد أو متجدد.

في حين استعصى الكروات في البوسنة وهم الأقلية، التي أبدت لحمة غير مسبوقة، على التفتت بين الأحزاب الكرواتية المتعددة حيث حصد الاتحاد الكرواتي الديمقراطي، في الانتخابات الأخيرة نحو 70% من أصوات الكروات في البوسنة (بين 16 و10% من عدد سكان البوسنة المقدر بـ5.4 مليون نسمة)، فإن الحزب يجد نفسه مهددا بالاستبعاد من الائتلاف الحاكم الذي سيقود البوسنة في السنوات الأربع المقبلة.

وقال المحلل السياسي، ورئيس تحرير مجلة «ليليان» سابقا، منصور بردار، لـ«الشرق الأوسط»: «ليس هناك حزب سلطة على الإطلاق، وأحزاب معارضة على الدوام في الأنظمة الديمقراطية، وبالتالي فإن تراجع الأحزاب التي خاضت الحرب شعبيا، أمر متوقع وطبيعي، لا سيما إذا نظرنا لما شهدته من انشقاقات وإخفاقات في الفترة الماضية». وأيد بردار القول إن «الحزب الاشتراكي الديمقراطي»، هو «الوريث لنظام جوزيف بروز تيتو، والناس لا يزالون متعلقين بتلك الفترة، التي وإن اتسمت بحكم الحزب الحاكم، فإن الأوضاع الاقتصادية كانت أفضل مما هي عليه الآن، ولا يستطيعون قبول التبريرات المتعلقة بالوضع الاقتصادي التي كان للحرب دور بارز فيها، حيث لم يتم اعتماد مشروع مارشال كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، والناس لا يدركون أن أحد أسباب انهيار يوغوسلافيا هو الوضع الاقتصادي الذي بدأ يتردى منذ سنة 1980 وبلغ الذروة سنة 1990 ولو استمر النظام الاشتراكي حتى اليوم لربما كان الوضع أكثر تدهورا».

وقد صدر عدد من ردود الفعل من قبل هذه الأحزاب الثلاثة؛ إذ لجأ «الحزب الصربي الديمقراطي»، الذي كان يرأسه رادوفان كراجيتش، الذي يحاكم حاليا في لاهاي، إلى بلغراد، التي تدخلت لعقد صفقة بين الحزب و«اتحاد الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين»، بزعامة دوديك، لإشراكه في الحكم. أما حزب العمل (المسلم) فلا يزال ينتظر ما سيقرره زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي زلادكو لوجومجيا بعد أن عرض رئيس حزب العمل سليمان تيهيتش رغبته في التحالف مع لوجومجيا معتبرا إياه «الحليف الأفضل». أما رئيس «الاتحاد الكرواتي الديمقراطي»، فلا يزال يطلق التصريحات التي يؤكد فيها على حقه في الانضمام للحكومة، ويحذر من مغبة تجاهله، لا سيما أنه يمثل أغلبية الكروات. كما لا يزال يحذر من دون أن يتوعد من قيام حكومة ممثلة فقط للصرب والبوشناق، من خلال ائتلاف «دوديك - لوجومجيا»، رغم أن «الحزب الاشتراكي الديمقراطي»، لا يعتبر نفسه حزبا يعبر عن طائفة كما هي الحال مثلا في «اتحاد الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين»، أو «الاتحاد الكرواتي الديمقراطي».

وقد اعترف رئيس حزب العمل الديمقراطي، سليمان تيهيتش، بصعوبة المباحثات الجارية لتشكيل الحكومة البوسنية، مثلها مثل كثير من الدول متعددة الإثنيات والديانات. على الجانب الآخر، يبدو أحد أسباب استبعاد الاتحاد الكرواتي الديمقراطي (حتى الآن) من أي ائتلاف مقبل في البوسنة، هو إصراره على قيام كيان خاص بالكروات، ليس بالضرورة أن يكون على شاكلة «جمهورية صربسكا». ويرغب الكروات في ضم مدن ومناطق لا يمثلون فيها أغلبية مطلقة، بل يرغبون في ضم أراض لا توجد فيها سوى أقلية كرواتية. وفي الآونة الأخيرة، لجأ رئيس الاتحاد الكرواتي الديمقراطي إلى ألمانيا ولقاء المستشارة أنجيلا ميركل لدعم موقفه في البوسنة، بعد أن نأت كرواتيا بنفسها، إلى حد كبير، عن التدخل في الشؤون الداخلية البوسنية.