أصغر فنانة تشكيلية مصرية مصرة على العيش وسط الصحراء

تعيد في لوحاتها بناء مدينة حاكم «الداخلة» واستعادة سكانها الغابرين

إيمان سالم في بيئتها الصحراوية (تصوير: عبد الستار حتيتة)
TT

هنا ولدت، وهنا قررت أن تثبت للجميع أن التعليم في المدن لا يعني الهروب من الصحراء ومجتمعها المحلي البسيط.

تقول إيمان سالم، وهي تقف بين أطلال مدينة القصر، آخر المدن التاريخية الواقعة في نطاق «الواحات الداخلة» بمحافظة الوادي الجديد، على بعد نحو 900 كيلومتر جنوب غربي القاهرة: «طفولتي في هذا المكان كانت طفولة بسيطة، عشتها كما عاشها الصغار، لكن أول تحدٍّ واجهته كان مع بدء الانتقال إلى الدراسة بالمرحلة الجامعية. لم تكن لدينا جامعة في ذلك الوقت. وكانت أسرتي تعتقد أنني إذا ابتعدت فلن أعود، لكنني عدت، وهم فخورون لأنني أرسم لوحات يشتريها السياح وتتحدث عن الماضي الذي كان عليه أجدادنا». وتضيف إيمان: «بداية من المرحلة الثانوية بدأت أدرك حبي للرسم. وبدأت أحلم بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة.. هذا الحلم تحقق، وأنا مدينة في هذا لأسرتي».

تطل القصر، التي يرجع تاريخ بنائها بالطين والأخشاب لعام 1240 ميلادية تقريبا، من فوق ربوة تشرف على الحقول الخضراء والسهول الرملية والهضاب البعيدة. وتجلس إيمان في الصحراء ناظرة إلى الآفاق المفتوحة عبر الرمال والسماء الصافية، ثم تغمس فرشاتها في الأصباغ لتلون وجوه الماضي وتعيد الحياة إلى الجدران والناس الذين عاشوا هنا قبل مئات السنين.

نشأت إيمان في بيئة يمتزج فيها الطابع البدوي القريب من الترحال بالريفي القريب إلى الاستقرار. بيئة صحراوية تعتمد على مياه العيون المتدفقة من باطن الأرض في الزراعة والحياة. وما بين ألوان الرمال والصخور المتدرجة من الأبيض الفاتح حتى الأسود القاتم، وألوان الخضرة وجداول المياه، أحبت إيمان الرسم، ثم إن تداخل ارتجالات الطبيعة، وصرامة الهندسة من حولها، منحاها الرغبة في إعادة تشكيل هذا العالم بالخطوط والألوان، وإعادة مفردات الحياة الغابرة هنا إلى الواجهة من جديد، بما فيها المباني القديمة لمدينة القصر.

وتقع القصر، التي يطلق عليها أيضا مسمى «القصر الإسلامية» على بعد نحو 35 كيلومترا إلى الشمال الغربي من مدينة موط، الواقعة في نطاق الواحات الداخلة. ويعتقد أن بناءها يعود إلى عهد الصالح أيوب بن الكامل قبل أكثر من 700 سنة. وتقبض إيمان على ملامح المدينة التي يمكن أن ترى ملامحها تتشكل بإيقاعات الألوان، فكأنك تسير من خلالها عبر طرقاتها الدائرية وأبوابها الضخمة ذات الأقفال الخشبية، جدران طينية متعددة الطوابق.. يحيط بالمدينة سور قديم كان يلفها من جميع الجهات.

للمدينة عدة مداخل كانت تغلق ليلا، لكن توجد فوق بابها الرئيسي مشنقة مكتوب تحتها أنه ينبغي على الغرباء عادات هذه المدينة، وألا يتعدوا على سكانها، وإلا تعرضوا للمحاكمة التي تصل العقوبات فيها إلى الإعدام شنقا على بوابتها.

وتصور إيمان على لوحاتها إبداع البناء القديم وهندسة الشوارع الداخلية في المدينة القديمة التي كانت في الماضي مقرا لحاكم إقليم الواحات. وهي ترسم بألوان تشبه اللون الطيني المدرسة التي كان يتعلم فيها أولاد القصر. وتضع لمساتها على خطوط المباني المشيدة هنا على طراز العمارة الأيوبية. وتتدرج بفرشاتها وهي تخط القباب المستديرة للمسجد وقاعدة المحكمة بألوانها، صفراء منيرة بضوء شمس الصحراء المتسللة عبر الشقوق على الورق الأبيض. تجدد إيمان الحياة في مخزن الحبوب ومعصرة الزيتون وطاحونة الغلال.

حين انتقلت إيمان للدراسة الجامعية في مدينة الأقصر، على بعد نحو 250 كيلومترا عن القصر، وجدت الحياة «غريبة» في تلك المدينة السياحية النيلية الشهيرة، مضيفة: «كانت بداية الحياة بالنسبة لي هناك حياة غريبة، لانتقالي من مجتمع إلى مجتمع آخر على الرغم من تشابه العادات والتقاليد تقريبا».

وفي القصر اختارت إيمان التخصص في قسم الغرافيك (التصوير) شعبة تصميم مطبوع. وتوضح أنها اختارت هذا القسم لحبها للمناظر الطبيعية في بيئتها بواحة الداخلة: «لقد أحببت الرسم والحفر على الخشب. وشاركت في عدد من المعارض داخل الكلية وخارجها. وكان أول عمل لي، وأنا في الفرقة الثالثة، لوحة زيتية بفندق من فنادق الأقصر. كنت أسافر أثناء دراستي إلى بلاد الصعيد لرسم وتصوير المناظر الطبيعية المعبرة أكثر عن البيئة البسيطة التي نعيش بها».

وقبل أن تعود إلى أسرتها في واحة الداخلة، حاملة الشهادة الجامعية، نفذت إيمان مشروع التخرج، وهو عبارة عن حفر على الخشب وحصلت على تقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف عام 2007، لتبدأ في مرحلة صراع جديدة مع واقعها الاجتماعي. كما تروي: «بدأ التشاور مع عائلتي. ورفض والدي أن أكمل دراستي العليا. والدتي أيضا قالت لي وقتها: كفاك غربة. ففكرت أن أبدأ مشروعي الفني من هنا، معتمدة على بيئتي المحلية بإمكاناتها البسيطة».

وحقا، لفت أول معرض لها في محافظة الوادي الجديد أنظار الغرباء الذين كانوا قد بدأوا يتوافدون على المحافظة للاستثمار السياحي فيها، وكان اسم المعرض «فانتازيا الماضي والحاضر». ولقد نظم عام 2008 في «مركز سوزان مبارك» بمدينة الداخلة. ومن حسن طالع إيمان أن المحافظ نفسه كان من افتتح المعرض وسط حضور كبير من أصحاب الفنادق والقرى السياحية. وتميزت اللوحات التي عرضتها هناك بالأسلوب الكلاسيكي الممتزج بالمدرسة السوريالية. ويمكن أن تلاحظ في كل لوحة الجهد المبذول للمزج بين أسلوبين متناقضين امتزجا في تناغم غريب، يشبه غرابة البيئة الصحراوية القاحلة والغنية بعيون المياه أيضا.

وعندما حضر والدها ووالدتها معرضها الأول، شاهدا الدهشة في عيون زوار معرض ابنتهما، ومنذ ذلك الحين بدأت نظرتهما لفن ابنتهما تتغير. وأصبحا مصدر تشجيع وإلهام لها لإنجاز مزيد من اللوحات الفنية المرسومة والمحفورة والمجسمة من الطين أيضا. وهاقد منح المجلس الأعلى للآثار رخصة لإيمان بالعمل في الرسم في مدينة القصر التاريخية تحت اسم «Eman Gallery of Art» وعرض ما ترسمه على زوار المدينة من السياح المحليين والأجانب. بدأت أول معارضها هنا منذ عام بـ12 لوحة. ومع تزايد عدد ما تنجزه من أعمال فنية أصبحت أكثر من 50 لوحة تغطي الجدران حولها، وكأنها تسابق الزمن لإعادة كل الشخوص وكل القصص التي عاشت في مدينة القصر قبل أن يحولها الزمن إلى أطلال.