أم رقيبة.. كتاب يعبق بالماضي وفخر الحاضر في السعودية

تحتضن مهرجان الملك عبد العزيز لمزايين الإبل

TT

لا يحتاج عاشق الصحراء والتراث، الذي يريد الإبحار في كتب التاريخ والموروث الشعبي في الجزيرة العربية، سوى تحريك مفتاح تشغيل سيارته وتعبئة محفظة نقوده بشيء من المال، والتوجه نحو الشمال على بعد 400 كيلومتر من العاصمة السعودية، الرياض، إلى «مهرجان أم رقيبة».

المهرجان الذي ذاع صيته مع البدايات البسيطة لمهرجان جائزة الملك عبد العزيز لمزايين الإبل (أجمل الإبل) وتجاوز حدود المملكة إلى دول مجلس التعاون الخليجي وبعض الدول العربية المجاورة، بات اليوم ينافس كبريات المهرجانات الموسمية التي تقام في بعض الدول.

وعندما تعزم على زيارة هذا المهرجان، فإنك لا تحتاج لشيء تحمله، «فقط اعتزم الرحيل واترك الباقي على أم رقيبة»، حيث يجد الزائر هناك كل ما يحتاجه، بل يجد ما لا يخطر بباله.

وعندما تقترب من منطقة أم رقيبة تقابلك رائحة النار، بل هي رائحة التاريخ السعودي قبل سنين طويلة، حيث تعود هذه الرائحة بالزائر إلى عقود مضت، مستذكرا مع منظر الإبل التي تحيط بالطريق المؤدي إليها يمينا وشمالا تاريخا ما برح الآباء والأجداد يروونه لأبنائهم وأحفادهم.

وعند الاقتراب شيئا فشيئا من المهرجان، وبخاصة إذا كان وصولك عندما يسدل الليل ظلاله، ترى صورة جمالية تحتاج إلى فنانين يستطيعون رسمها.. الألوان المختلفة من المخيمات التي نصبت، كلها ترقبك وأنت قادم تحييك وتدعوك إليها، في منظر غير مألوف في هذا الزمان.

يحتاج الفنانون أياما وشهورا ليرسموا أم رقيبة عندما تتزين ليلا بأنوار المخيمات التي نصبها المتنافسون على جائزة الملك عبد العزيز لمزايين الإبل، فهي أشبه ما تكون بنجوم تتلألأ هي ونيران موقديها من أصحاب الإبل أو غيرهم. الكل سعيد ومبتهج، الكل هناك تبرق أسارير وجه، لا لشيء إلا لمشاعر في الأنفس مع أجواء الشتاء ومناظر تعيدك إلى ذاكرة الأجداد، و«سوالف النار».

هكذا أرادها مؤسس المهرجان، الأمير مشعل بن عبد العزيز رئيس هيئة البيعة السعودي ورئيس اللجنة العليا لمهرجان الملك عبد العزيز لمزايين الإبل، الذي يهدف من هذه المسابقة إلى الحفاظ على موروث الآباء والأجداد والعناية بالإبل لمكانتها في جزيرة العرب منذ فجر الإسلام.

«الشرق الأوسط» تجولت على مدى ثلاثة أيام في المهرجان، بداية بالسوق الشعبية، حيث يجد الزائر أشياء مثيرة وعجيبة، وأخرى تدعو للدهشة والضحك. فمن البقالات المتجولة التي تلتحف بخيام مفتوحة على مصراعيها، ومرورا بأصحاب الحطب والفحم، والبوفيهات المتنقلة، والمطاعم الشعبية، إلى أن تصل إلى من يبيع الماء والأواني المنزلية، بل حتى التسجيلات السمعية التي تصدح في السوق الشعبية.

يشد انتباه الزائر هناك توافر جميع الخدمات، فلا قلق في أم رقيبة من طول شعر الوجه، فالحلاقون موجودون وبكثرة، ولا قلق من اتساخ الملابس والأثواب فالمغاسل متوافرة هناك، بل حتى «مروش ودورات مياه» متوافرة هناك.

بين جنبات السوق يلفت انتباه الزائر خيام وضعت لنفسها إعلانا بتوفير شعراء وقنوات فضائية وفرق شعبية وغيرها مما يطلبه البعض للأنس في المهرجان، فضلا عن بيع الأواني المنزلية (عدة الطبخ)، ومحل بيع اللحم، والملابس الشتوية، والتحف والأشياء التراثية، وتأجير وبيع الخيام وغيرها مما تتمتع به أم رقيبة، خلاف الطباخين الذين يجوبون السوق الشعبية لعرض خدماتهم.

وتعتبر أم رقيبة مصدرا لجني الملايين من خلال الصفقات التي تتم في أرض المهرجان، حيث تصل المبيعات إلى ثلاثة ملايين ريال، بالإضافة إلى الصفقات التي تعقد بهدف دعم المشاركات بالإبل ذات الصفات النادرة للظفر بالجائزة وتحقيق مكاسب لعل أبرزها الشهرة.

وعلى بعد خطوات هناك جانب آخر من المهرجان، هناك ملاك الإبل الذين يدورون بين حظائر بدائية يتبايعون في ما بينهم في سوق سموها «حراج الإبل»، ولا تستغرب أن تجد السيارات المخصصة لرفع الحديد والأشياء الثقيلة وهي تحمل الإبل لتضعها في «شبك الحراج» وبعدها تتعالى الأصوات في المزايدة بالسعر.

وما إن يسدل الليل ستاره، حتى يتغير المهرجان ويتحول إلى عالم أشبه ما يكون بأنشودة أخرى، ولوحة فنية يستمتع بها الزائر، بأذنه لا بعينه. فتهدأ أصوات السيارات ويخف غبارها الذي يزعج مرتادي السوق، ويبدأ عالم آخر من المتعة.

ليل أم رقيبة ورغم لسعات برد ديسمبر (كانون الأول)، فإنه مختلف عن ليل آخر، حيث تنير النار المسافات بين المخيمات تقف تطالع السماء لتشتم رائحة هذه النار، تقترب أكثر من هذه الخيام، تسمع التنافس في الشعر.. للشعر هنا طعم آخر، يتنافس الشعراء للحضور ومجاراة بعضهم بعضا صغارا وكبارا. وما بين خيمة وأختها، نجد مخيما كبيرا تجتمع فيه الناس حتى ساعة متأخرة من الليل، لا لشيء إلا للاستمتاع بعروض الفرق الشعبية، تلك التي تصدح بالسامري الذي يشترك فيه الجميع، فكل من يزورون تلك المخيمات الكبيرة يستمتعون بالعشاء ثم السامري.

ومع بزوغ الفجر وإشراقة صباح جديد، توقظك رائحة الإفطار الشعبي، فتختلط رائحة الدقيق والسمن البري وغيرها مما تجود بها بعض النسوة اللاتي يشاركن في المهرجان لاستذكار الماضي وكسب بعض المال. العميد متقاعد موسى إبراهيم النبهان، يزور المهرجان بصحبة أبنائه هذا العام بعد انقطاع عنه دام 4 سنوات، ويقول: «لم أتوقع أن أرى المهرجان يكبر بسرعة وخلال فترة وجيزة»، مبينا أن «المهرجان يبعدك عن ضجيج وصخب المدن الكبيرة ويعيدك إلى الحياة الماضية التي كانت، رغم شقاوتها، ممتعة».

ويضيف النبهان أن ما يميز أم رقيبة أن كل شيء متوفر فيها، فالخدمات كلها تقريبا متوفرة، وكذلك هناك مدن قريبة منها في حال تطلب الأمر أي حاجة طارئة.

كما يرى أبو مرزوق، وهو من المداومين على حضور المهرجان في كل عام، أن ما يميز ليالي أم رقيبة هو تبادل الشعر مع الأصدقاء، مما يضفي جوا آخر مع ما نشاهده من فعاليات ومعروضات في السوق الشعبية، مؤكدا أنه يقضي أياما كثيرة في المهرجان ويدعو كثيرا من الأصدقاء إلى زيارته في خيمته في أم رقيبة.

في أم رقيبة التي بدأ مهرجانها قبل ثلاثة أسابيع تقريبا ويختتم نهاية الأسبوع الحالي، لا تأخذ معك شيئا، فكل شيء ستجده، فقط اختر من أصحابك من يحفظ قصص الأولين وأشعارهم، وإن اضطررت فاستعر سيارة ذات دفع رباعي لتستمتع أكثر. هناك ستجد كل شيء، فقط استمتع بعبق الماضي والتاريخ وفخر الحاضر. هناك.. فقط في أم رقيبة.