قادة انتفاضة الشباب مهنيون ضللوا الشرطة ونظموا اختبارات ميدانية

يوم 25 يناير دبروا خدعة للالتفاف على الشرطة بتسريب نبأ عن موقع كاذب لتجمعهم

أحد المتظاهرين يرفع شعارات تطالب برحيل الرئيس المصري التي عمت المدن المصرية أمس (أ.ف.ب)
TT

لقد ولدوا تقريبا في وقت تولي الرئيس حسني مبارك الرئاسة، ونال بعضهم درجات علمية من أعرق جامعات مصر وقضوا كامل حياتهم كشباب ملجمين بقيود الدولة المصرية البوليسية، وتعرض بعضهم لعمليات توقيف متكررة وتعذيب بسبب القضية التي يؤمنون بها.

إنهم المهنيون الشباب، وغالبيتهم من الأطباء والمحامين، الذين أشعلوا فتيل الثورة التي هزت مصر ثم قادوها، وهم من أبناء جيل «فيس بوك» والذين حرصوا على الابتعاد عن بؤرة الضوء، خشية إلقاء القبض عليهم أو اختطافهم من جانب قوات الشرطة السرية.

إلا أنه الآن مع سعي الحكومة المصرية لإحداث انقسام في حركتهم عبر الادعاء بأن مسؤولين يتفاوضون مع بعض من قادتهم، تقدم هؤلاء الشباب إلى الأمام وكشفوا علانية للمرة الأولى عن دورهم الخفي في الأحداث.

ولم يظهر منهم سوى 15 فقط، بينهم وائل غنيم، المسؤول التنفيذي بشركة «غوغل»، الذي احتجز لمدة 12 يوما، لكن ظهر الأسبوع الماضي كأقوى متحدث باسم الحركة.

ومع ذلك، تمكن هؤلاء الشباب من إضفاء طابع من التعقيد والمهنية على قضيتهم، مستغلين الفضاء الإلكتروني الذي يصعب خلاله التعرف على الهويات الحقيقية، للفرار من الشرطة السرية، ونشر شائعات كاذبة لتضليل جواسيس الشرطة، وتنظيم «اختبارات ميدانية» في أزقة القاهرة قبل وضع خطط معركتهم، ثم التخطيط لجدول زمني لمظاهرات أسبوعية لإنقاذ ذخيرتهم، ساعدا في تفسير الصمود المذهل للانتفاضة التي بدأوها.

في خضم جهودهم، كونوا بعض الصلات الفريدة من نوعها التي تعكس الطابع اللاآيديولوجي لثورة الشباب المصريين، التي تضم في صفوفها ليبراليين واشتراكيين وأعضاء من «الإخوان المسلمين».

من جهتها، قالت سالي مور، 32 عاما، طبيبة نفسية، وهي مسيحية من أصول مصرية - آيرلندية، ومن أشد أنصار التيار اليساري والفكر النسوي: «أكثر من يروق لي الإخوان المسلمين، وهم يحبونني أيضا. ونحن ندرك أنهم دوما لديهم أجندة خفية، ولا يمكن لأحد قط التكهن بالسبيل الذي سيسلكونه حال وصولهم إلى السلطة. لكنهم يتمتعون بقدرة كبيرة على التنظيم ويدعون لإقامة دولة مدنية مثلما ندعو جميعا، لذا دعوهم يؤسسوا حزبا سياسيا مثل أي كتلة أخرى، وأعتقد أنهم لن يفوزوا بأكثر من 10%».

كثير من أعضاء الدائرة المنظمة التقوا أثناء دراستهم الجامعية. مثلا، أشار إسلام لطفي، محام يترأس «شباب الإخوان المسلمين»، إلى أن جماعته اعتادت حشد تأييد آخرين من أحزاب يسارية صغيرة لمناصرتها في الدعوة للحريات المدنية، سعيا لجعل دعوة الجماعة تبدو ذات طابع عام. وكثيرون منهم حلفاء الآن في الثورة، بينهم زياد العليمي، 30 عاما، محام، الذي كان حينها قائدا لمجموعة شيوعية.

تعرض العليمي للسجن عدة مرات ولكسور متعددة في أطرافه جراء التعذيب بسبب نشاطه السياسي، ويعمل حاليا مساعدا لمحمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل لعمله في إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقد بنت مجموعته صلات بمنظمين شباب آخرين مثل مور.

غرست بذور الثورة في الوقت نفسه لاندلاع الانتفاضة التونسية تقريبا، عندما بعث وليد رشيد، 27 عاما، عضو مجموعة على شبكة الإنترنت تدعى حركة «6 أبريل (نيسان)»، إلى مسؤول مجهول الهوية لصفحة على «فيس بوك» مناهضة للتعذيب طلب منه «المساعدة التسويقية» لتنظيم مظاهرات في 25 يناير (كانون الثاني)، حسب ما ذكر رشيد. وقد خالجته الدهشة من حرص هذا المسؤول على التواصل فقط من خلال خدمة رسائل «غوغل» الفورية. في الواقع، كان هذا المسؤول شخصا يعرفه بالفعل، وهو وائل غنيم، المسؤول التنفيذي لدى «غوغل».

في يوم المظاهرات، دبرت المجموعة خدعة للالتفاف على الشرطة، حيث عمدت المجموعة على تسريب نبأ عزمهم التجمع عند مسجد في حي راق بوسط القاهرة. وبالفعل، تجمعت الشرطة هناك بكامل قوتها. إلا أن المنظمين حشدوا المظاهرة الحقيقية في ضاحية أخرى فقيرة، حسب ما أوضح العليمي.

وكانت مسألة انطلاق المظاهرات من حي فقير تجربة في حد ذاتها. وعن ذلك، قال لطفي: «دائما نبدأ من النخبة بالاعتماد على الوجوه ذاتها. لكن هذه المرة فكرنا في تجريب مسار مختلف». انقسمت المجموعة لفريقين؛ واحد يحاول إقناع الأشخاص الموجودين في المقاهي بالانضمام لهم، بينما شرع آخر في ترديد الهتافات الموجهة للمقيمين بالمباني المحيطة. وأوضح لطفي أنه بدلا من الحديث عن الديمقراطية، ركزوا على القضايا الأكثر إلحاحا، مثل وضع حد أدنى للأجور. ومن بين الهتافات: «هُمّا ياكلوا حمام وفراخ، واحنا الفول دوَّخْنا وداخ».

وقالت مور: «بدأت مجموعتنا في التحرك عندما أصبحنا 50. ولدى خروجنا من الحي كان عددنا بلغ الآلاف». وأضافت أنه مع اندلاع المظاهرات ذلك اليوم، شاهدت رجلا أطلقت الشرطة عليه النار وأردته قتيلا. وفي المظاهرة التالية، حملت معها حقيبة إسعافات طبية وأنشأت مركزا لتقديم الإسعافات الأولية.

بحلول وقت احتلالهم ميدان التحرير، استعانت وأصدقاؤها بأفراد من «اتحاد الأطباء العرب» - الذي ينتمي الكثير من أعضائه أيضا إلى «الإخوان المسلمين» - لإنشاء شبكة من سبعة عيادات. في الليلة السابقة لـ«جمعة الغضب» في 28 يناير (كانون الثاني)، التقت المجموعة داخل منزل العليمي، بينما أجرى لطفي ما وصفه بـ«اختبار ميداني». من 6 حتى 8 مساء، سار هو ومجموعة صغيرة من أصدقائه عبر الشوارع الضيقة في حي ينتمي سكانه للطبقة العاملة داعين السكان للتظاهر، وكان الهدف الرئيسي استكشاف مستوى المشاركة وتقدير سرعة تحرك المظاهرة عبر الشوارع. وأضاف: «الطريف في الأمر أنه عندما انتهينا، رفض الناس الرحيل. كان العدد قد بلغ قرابة 7 آلاف وأضرموا النيران في سيارتين تابعتين للشرطة».

عندما أبلغ المجموعة المجتمعة في منزل النعيمي هذه المعلومات، وضعوا خطة مفصلة للمتظاهرين للتجمع عند مساجد معينة، ثم السير في اتجاه شوارع تشكل شرايين رئيسة مؤدية لميدان التحرير، بل واقترحوا على محمد البرادعي أي المساجد ينبغي أن يذهب إليها. بعد ذلك، أخطروا الصحف بالأماكن التي ينوون التجمع عندها، وانتشرت حول العالم صور الحائز على «نوبل» وخراطيم المياه تنهال عليه. وفي مؤشر على فجوة بين الأجيال تركت أصداءها في مختلف أرجاء مصر، اعترف الشباب ببعض الإحباط تجاه قياداتهم الأكبر سنا داخل أحزاب المعارضة. وعن ذلك، قال لطفي: «إنهم ببساطة جزء من النظام، وقد تمكن مبارك من ترويضهم». واستطرد بأن وجود أعضاء من «الإخوان المسلمين» في الميدان اتضح أنه واحد من الأصول الاستراتيجية نظرا لأنه باعتبارهم أعضاء في جماعة محظورة سرية، فإنهم «منظمون بطبيعتهم».

في غضون بضعة أيام، اتضحت الأهمية الحيوية لهذه القدرة التنظيمية عندما سارع المتظاهرون لتكوين ما يشبه خط تجميع للدفاع عن أنفسهم ضد هجوم قوي بالحجارة وكرات اللهب من حشود من الموالين لمبارك. واستخدمت مجموعة من المتظاهرين قضبانا حديدية في تحطيم الرصيف إلى حجارة، بينما نقلت أخرى الحجارة للصفوف الأمامية وتولت ثالثة حراسة المتاريس والحواجز.

واعترف لطفي بأنه: «عندما يسقط الناس قتلى، يخالجك شعور بالذنب من حين لآخر. لكن بعد هذه الليلة، تعزز بداخلنا الشعور بأن وطننا جدير بتضحياتنا». بعد أيام قليلة، تعرض سبعة من أعضاء المجموعة للاختطاف من قبل الشرطة بعد مغادرتهم اجتماعا داخل منزل البرادعي وظلوا محتجزين ثلاثة أيام.

ووزع المنظمون جدولا أسبوعيا بالمظاهرات، مع تنظيم أكبرها يومي الثلاثاء والجمعة بهدف توفير طاقتهم. وقبل كل مظاهرة، يعمدون لتسريب معلومات خاطئة لتضليل الشرطة، مثل تسريب أنهم سينظمون مسيرة لمبنى التلفزيون بينما يكون هدفهم الرئيسي محاصرة البرلمان.

وقد شكلوا ائتلافا لتمثيل ثورة الشباب، ضم غنيم في لجنته التنفيذية. وعندما بدأت الحكومة تدعوهم لاجتماعات، عقدوا تصويتا داخل ميدان التحرير لاتخاذ قرار بهذا الشأن. وقد شارك قرابة ستة من ممثلي المجموعات الشبابية المشاركة بالثورة وصوت 70% تقريبا ضد التفاوض، حسب ما ذكر أحد المصادر. ينتمي غالبية أعضاء الائتلاف إلى ليبراليين أو يساريين، وأعلنوا جميعا، بمن فيهم «الإخوان المسلمين»، أنهم يتطلعون نحو إقامة نظام ديمقراطي دستوري على النسق الغربي، حيث تتميز المؤسسات المدنية بقوة أكبر من الأفراد.

لكنهم يعترفون أيضا بوجود انقسامات عميقة، خاصة حول دور الإسلام في الحياة العامة. من جانبه، أشار لطفي إلى تركيا التعددية. وفي ما يخص مسألة الخمر التي يحرمها الإسلام، أعرب عن اعتقاده بأن تناول الخمور مسألة شخصية، لكن ربما ينبغي تجريم تناولها في الأماكن العامة. وفي سؤال له حول ما إذا كان يتخيل إمكانية وصول امرأة مسيحية لرئاسة مصر، توقف قليلا ثم قال: «لو كانت الحكومة حينها قائمة على مؤسسات، لن آبه حينها لو كان الرئيس قردا».

*خدمة «نيويورك تايمز»