مبارك.. أطول فترة حكم في تاريخ مصر الحديثة

كان طموحه العمل سفيرا في لندن

صورة التقطت للرئيس حسني مبارك لدى إلقائه خطابا في يوم العمال بالقاهرة عام 1982 (أ. ب)
TT

بتنحي الرئيس حسني مبارك (82 عاما) عن الحكم أمس وتولي الجيش إدارة دفة الحكم في البلاد، تكون مصر قد طوت صفحة مهمة من تاريخها الحديث، سيطر فيها الرئيس مبارك على السلطة لمدة 30 عاما، في أكبر دولة في منطقة الشرق الأوسط.

30 عاما كانت كفيلة بأن تجعل الرئيس مبارك يصبح الأطول في فترة الحكم بين ملوك مصر ورؤسائها منذ عهد محمد علي باشا عام 1805. كما تعتبر فترة حكم مبارك رابع أطول فترة حكم في المنطقة العربية، من الذين هم على قيد الحياة حاليا، بعد الرئيس الليبي معمر القذافي والسلطان قابوس بن سعيد، سلطان عمان، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح.

تولى مبارك رئاسة البلاد في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، ليصبح الرئيس المصري الرابع منذ ثورة يوليو (تموز) التي قام بها الجيش عام 1952، بعد محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات.

انتهج مبارك خلال فترة حكمه سياسات تميزت بالاستقرار والهدوء النسبي على جميع المستويات، السياسية والعسكرية والاقتصادية، في الداخل والخارج، وإن كانت قد شهدت عددا من التوترات الاجتماعية في مصر.

عُرف عن الرئيس مبارك، الذي ولد في 4 مايو (أيار) 1928، في قرية كفر مصيلحة بمحافظة المنوفية بمنطقة الدلتا، اجتهاده الدراسي وتفوقه العلمي؛ فقد أنهى مرحلة التعليم الثانوي بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم بمحافظة المنوفية بتفوق، ثم التحق بالكلية الحربية، وحصل على بكالوريوس العلوم العسكرية في فبراير (شباط) عام 1949؛ حيث تخرج برتبة ملازم ثانٍ في وقت كانت تموج فيه المنطقة بعدة تغيرات جوهرية أبرزها الحرب العربية - الإسرائيلية الفاصلة التي جرت عام 1948.

والتحق مبارك كضابط في سلاح المشاة باللواء الثاني الميكانيكي لمدة 3 شهور. وبمجرد أن أعلنت كلية الطيران عن قبول دفعة جديدة بها، من خريجي الكلية الحربية، تقدم مبارك للالتحاق بالكلية الجوية، واجتاز الاختبارات مع 11 ضابطا قبلتهم الكلية، وتخرج فيها؛ حيث حصل على بكالوريوس علوم الطيران من الكلية الجوية في 12 مارس (آذار) 1950، في وقت كانت فيه مصر تموج بحركات سياسية وشعبية مناهضة للاحتلال الإنجليزي لمصر، ولخلافات عميقة بين البرلمان وملك البلاد والأحزاب السياسية التي كان من أبرزها في ذلك الوقت حزب الوفد.

وصقل مبارك خبراته العسكرية بعدد من الدورات الخارجية في الاتحاد السوفياتي السابق، حين تلقى دراسات عليا بأكاديمية فرونز العسكرية في الفترة من عام 1964 إلى 1965، ثم انخرط في بعثات متعددة للتدريب على (القاذفة إليوشن 28)، وبعثة للتدريب على (القاذفة تي يو 16)، لكن زياراته الكثيرة للاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت جعلته أكثر خبرة بالحرب الباردة التي نسبت بين المعسكرين الشرقي والغربي، خاصة في النصف الثاني من القرن الماضي.

وتدرج مبارك في الوظائف العسكرية فور تخرجه؛ حيث عُين بالقوات الجوية في العريش، في 13 مارس 1950، ثم نقل إلى مطار حلوان عام 1951 للتدريب على المقاتلات.. وأثناء ذلك قامت ثورة الجيش في 23 يوليو 1952، لكن لم يذكر التاريخ عن مشاركة تُذكر لمبارك في هذه الثورة. ومع ذلك استمر مبارك في موقعه إلى بداية عام 1953؛ حيث نقل إلى كلية الطيران ليعمل مدرسا بها، فمساعدا لأركان حرب الكلية، ثم أركان حرب الكلية، وقائد سرب في الوقت نفسه، إلى عام 1959؛ حيث خبر في ذلك الوقت أول حرب عملية تتعرض لها مصر في ذلك الوقت هي العدوان الثلاثي الذي قامت به كل من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا عام 1956.

وبعد عام 1959 أصبح مبارك قائدا للواء قاذفات قنابل وقائدا لقاعدة غرب القاهرة الجوية بالوكالة حتى عام 1966، أي قبل اجتياح إسرائيل لسيناء عام في يوم 5 يونيو (حزيران) 1967؛ حيث كان حسني مبارك أثناء تلك الحرب قائد قاعدة بني سويف الجوية جنوب البلاد. وبعد الهزيمة التي تُعرف باسم النكسة في يونيو، تم تعيين مبارك مديرا للكلية الجوية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1967؛ حيث شهدت الفترة التالية حرب الاستنزاف التي ترقى مبارك خلالها عام 1969 إلى رتبة عميد. وفي الفترة التي أعقبت وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتولي الرئيس أنور السادات الحكم؛ حيث كانت مصر تستعد لخوض حرب لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي عام 1973، شغل مبارك منصب رئيس أركان حرب القوات الجوية ثم قائدا للقوات الجوية في أبريل (نيسان) 1972، وفي العام نفسه عين نائبا لوزير الحربية.

وفي حرب أكتوبر عام 1973 قاد مبارك القوات الجوية المصرية، في الحرب مع إسرائيل، وتعتبر مشاركته في هذه الحرب من أكبر إنجازاته الوطنية؛ حيث أصبح يعرف بلقب صاحب أول ضربة جوية مهدت للنصر، وكانت لها أثر كبير في ضرب النقاط الحيوية للقوات الإسرائيلية في سيناء. وإثر ذلك تمت ترقية اللواء محمد حسني مبارك إلى رتبة الفريق عام 1974، وظهر في جلسة البرلمان وهو يتلقى الثناء من الرئيس السادات، الذي اختاره في 15 أبريل عام 1975 نائبا له ليشغل مبارك هذا المنصب حتى وفاة السادات عام 1981.

وتقول بعض الشهادات التي ظهرت فيما بعد: إن الرئيس المصري لم يكن يتوقع أن يتم اختياره نائبا للسادات، وإن طموحه كان ينحصر في أن يكون سفيرا لبلاده في لندن ليعيش عيشة «الإكسلانسات» (في إشارة إلى الطبقة الأرستقراطية في إنجلترا). وكان مبارك قد ذكر ذلك فعليا في حوار سابق له، وأنه كان لا يطمح إلى أن يصبح رئيسا للجمهورية، وأن كل أمانيه أن يعيش في لندن كـ«إكسلانس».

كما قالت شهادات ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية تتحدث عن أن بعض الأطراف الفاعلة في القصر الرئاسي أيام السادات كانت تعارض اختيار مبارك نائبا للرئيس؛ لأن نائب الرئيس كان دائما ما يكون الأكثر حظا للاستفتاء عليه من مجلس الشعب لاختيار رئيس جديد للبلاد، وفقا لنص مادة في الدستور عدلها مبارك فيما بعد.

وأعقب تعيين السادات لمبارك نائبا سنوات عصيبة اصطدم فيها السادات مع قوى المجتمع المصري بسبب سياسات اقتصادية وخارجية مثيرة للسخط، كان من بينها اتجاهه للصلح مع إسرائيل، ومقاطعة غالبية الدول العربية لنظام السادات بالقاهرة، وتزامن ذلك مع إعلان السادات نفسه تشكيله حزبا سياسيا يحمل اسم أحد الأحزاب المصرية القديمة التي يعود تاريخها لبداية القرن الماضي، هو «الحزب الوطني الديمقراطي» عام 1978 ليكون «حزب السلطة» منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.

وكان السادات رئيسا للدولة وللحزب الوطني ومبارك نائبا له في الحزب والرئاسة. وفي هذه الظروف الداخلية والخارجية تولى مبارك عدة ملفات مهمة عربيا ودوليا، مع السادات، كان من بينها قيامه بالكثير من الزيارات للكثير من دول العالم، والتي أسهمت إلى حد كبير في تدعيم علاقات هذه الدول مع مصر، ونشاط لدور مصر الخارجي، أهمها عملية تلطيف الأجواء بين القاهرة وعدة عواصم عربية. كان مبارك يجلس بجوار السادات في منصة للعرض العسكري في طريق النصر بالقاهرة، حين نزل متشددون إسلاميون، منهم ضباط في الجيش، وقاموا بمهاجمة المنصة في 6 أكتوبر 1981، وقتل السادات وإصابة مبارك بجروح طفيفة. وكانت المادة 76 من الدستور تحدد عملية اختيار الرئيس عن طريق تسمية مجلس الشعب لاسم من الأسماء وطرحه للاستفتاء على الشعب، وهي الطريقة التي انتقلت بها السلطة من عبد الناصر إلى السادات، ومن السادات إلى نائبه؛ حيث تولى الحكم فعليا قبل نهاية عام 1981؛ حيث قال في ذلك الوقت إنه لن يبقى في الحكم أكثر من فترتين مدة كل منهما ست سنوات. لكن مبارك استمر في رئاسة مصر خمس دورات متتالية؛ حيث أعيد الاستفتاء عليه رئيسا للجمهورية أعوام 1987 و1993 و1999 و2005.. وهذه الانتخابات الأخيرة جرت لأول مرة بناء على تعديل دستوري اقترحه مبارك نفسه، بسبب ما قال مراقبون إنه الضغوط الغربية لفرض الإصلاح في منطقة الشرق الأوسط، بمناسبة غزو القوات الدولية للعراق.

وتقضي تلك المادة الدستورية (رقم 76) بأن يكون اختيار رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح في انتخابات تعددية عامة، لكن هذا التعديل شهد انقسامات حادة بين فقهاء الدستور بسبب العراقيل التي تضمنها أمام حق الترشح والمنافسة من أي شخصيات مستقلة، واعتبر معارضون التعديل تمهيدا لتمرير سيناريو التوريث لصالح نجله جمال مبارك. وفاز مبارك في انتخابات 2005 بفارق كبير عن أقرب منافسيه، الدكتور أيمن نور، مؤسس حزب الغد المعارض.

وجاءت هذه التعديلات الدستورية والقانونية بعد أن كان مبارك قد دخل فعليا في خلاف عميق مع جماعة الإخوان التي جرت إحالة عدد من قادتها وكوادرها إلى المحاكم العسكرية، وإلحاق الهزيمة بها في انتخابات المجالس المحلية ومجلسي الشعب والشورى. وخلفت الهزائم السياسية القاسية التي لحقت بالإخوان وجماعات المعارضة السياسية الأخرى مظاهرات متعددة في مناطق مختلفة من البلاد، أسهمت في تأجيجها ممارسات عنيفة من الشرطة للمواطنين، والظروف الاقتصادية التي يعانيها غالبية المصريين، مقابل ثراء فاحش لعدد من المقربين من الحزب الحاكم.

ومنذ أواخر العام الماضي خرجت مظاهرات حاشدة للمطالبة بتنحي مبارك وإسقاط نظامه وحزبه الحاكم، بلغت ذروتها في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، عندما بدأت موجة من التظاهرات في جميع أنحاء مصر تطالب بإسقاط النظام، وتم إنزال قوات الجيش إلى داخل المدن في اليوم الرابع لها في 28 يناير، ثم ألقى مبارك خطابين خلال الأحداث، أعلن في الأول عن مجموعة من القرارات وصفها بإصلاحات، وقال في الثاني إنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية جديدة في الانتخابات التالية، وقال نائبه فيما بعد إن مبارك لن يرشح نجله جمال أو أيا من أفراد أسرته.

منذ بداية توليه مهامه كرئيس للجمهورية، اتبع مبارك سياسة خارجية تقوم على النهج البراغماتي الذي يقوم على توطيد علاقات مصر مع غالبية دول العالم من دون الاحتكاك بالأزمات الكبرى أو الصدام مع القوى العظمى، وهو الأمر الذي خلق توافقا في الرؤى فيما يتعلق بالكثير من القضايا الدولية.

ولعب مبارك دورا كبيرا في قضية الشرق الأوسط؛ حيث أكمل مفاوضات السلام التي بدأها أنور السادات مع إسرائيل في كامب ديفيد، استمرت عملية السلام بين مصر وإسرائيل حتى تم استرجاع أغلب شبه جزيرة سيناء من إسرائيل حتى لجأت مصر إلى التحكيم الدولي لاسترجاع منطقة طابا من الاحتلال الإسرائيلي إلى أن فازت مصر وتم استرجاع طابا عام 1989.

أعقب ذلك إنجاز آخر على مستوى المنطقة، وهو استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين مصر والدول العربية بعد أن كانت قد تأزمت في أعقاب توقيع اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979، وفي عام 1990 استعادت مصر أيضا عضويتها في الجامعة العربية، وعاد مقر الجامعة إلى القاهرة. وعرف بموقفه الداعم للمفاوضات السلمية الفلسطينية - الإسرائيلية. واستطاع مبارك، بسياسته الخارجية الهادئة، الابتعاد بمصر عن أجواء التوتر والحروب، وكان من المعارضين للحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق عام 2003 وحذر من تحول الوضع إلى كارثة وفوضى. وفي أزمة غزة الأخيرة وعلى الرغم من مهاجمة بعض الدول العربية له بسبب عدم فتحه الحدود مع غزة، فإن قرار مبارك بعدم فتح الحدود كان قرارا ذا طابع حكيم لحماية الأراضي المصرية من الفوضى والعناصر الإرهابية، لكن تم السماح بالمساعدات الطبية والأغذية بالنفاذ من معبر رفح، وتم استقبال المئات من الفلسطينيين في المستشفيات المصرية.

أما على صعيد السياسة الداخلية في عهد مبارك، فقد تميزت بداية عصر مبارك بعدد من الإصلاحات السياسية، كان أولها بعد توليه السلطة بأسبوعين حين أمر بإطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين واستقبلهم في مكتبه، وتضمنت الإصلاحات السياسية الأخرى زيادة مساحة حرية الصحافة وإنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان كمجلس مستقل يروج لثقافة وممارسة حقوق الإنسان في مصر، لكنه واجه انتقادات حادة في السنوات الأخيرة تتعلق بسيطرته على الحكم ومحاولة تدمير كل قوى المعارضة وتزوير الانتخابات البرلمانية وطرحه لتعديلات دستورية تكرس سيطرة الحزب الوطني على السلطة.. كما أنه منذ توليه الرئاسة ظل تطبيق قوانين الطوارئ ساريا إلى الآن.

ومن الناحية الاقتصادية يعتقد البعض أن مبارك لم يستطع أن يحقق ما كان يعد به دائما من تحقيق الاستقرار الاقتصادي وحماية محدودي الدخل، بل ظل الاقتصاد يعاني حتى الآن مشكلات كبيرة، خاصة بعد تبنيه عمليات الخصخصة التي أثير حولها الكثير من الشكوك والمشكلات من حيث عدم جدواها وإهدارها للمال العام.. وأنها كانت في صالح المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال فقط.. كما أنه لم يستطع تحقيق معدلات معقولة من نسبة البطالة للبلد ويرجع هذا السبب إلى السبب الأولي بجانب تحكم عدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال في مقدرات البلد. على الرغم من هذا فإن مصر احتلت مركزا متقدما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جذب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار المباشر. وفي عصره تزايد عدد الفقراء؛ حيث أشار تقرير نشر في فبراير 2008 إلى أن «11 مليون مواطن يعيشون في 961 منطقة عشوائية»، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية إثر بعض السياسات الاقتصادية، ويتحكم 2% من المصريين في 40% من جملة الدخل القومي، وقد اتخذت الأزمة الاقتصادية في عهده منعطفا خطيرا بعد عام 1998؛ إذ زادت معدلات التضخم بصورة ضخمة في هذا العام وتضاعفت الأسعار بسبب قرار اتخذه رئيس الوزراء وقتها عاطف عبيد بتحرير سعر الدولار. وعلى الرغم من أن مصر تغيرت إلى الأفضل على المستويين الاجتماعي والاقتصادي على مدار العقود الثلاثة الماضية، فإن هذا التطور لم ينعكس بشكل كامل على حياة المصريين الذين يشعرون بأن الوضع سيئ ولا يبشر بخير، فالحزب الوطني الحاكم يطبق سياسات لا تحمل وراءها أي أهداف سوى إضفاء الطابع المؤسسي على الحزب الحاكم، وتكرس سيطرة رجال الأعمال.

ومعلوم أن مبارك متزوج من سوزان صالح ثابت، الشهيرة بسوزان مبارك، ولهما ولدان هما علاء وجمال، وله حفيدان من ابنه علاء هما محمد وعمر، وقد توفي حفيده محمد في 18 مايو 2009 عن عمر 12 سنة عقب أزمة صحية حادة وله حفيدة من ابنه جمال وهي فريدة وولدت في 23 مارس 2010 في لندن.

وقد تعرض الرئيس مبارك خلال رئاسته لعدة محاولات اغتيال، كان أخطرها المحاولة التي تعرض لها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995 على يد ما يعتقد أنهم إسلاميون مصريون متشددون.