لوحة وكالة الاستخبارات البريطانية لا تفصح عن الكثير

صورت عالمها السري بألوان زيتية.. وبيعت بأكثر من 28 ألف دولار في لندن

TT

بيعت اللوحة الزيتية الغامضة «الانتظار في غرفة الفندق» مقابل 28.200 دولار، الأسبوع الماضي، في ليلة افتتاح معرض في حي ماي فير الراقي بلندن، حيث تمتلئ صالات عرض الأعمال الفنية ذات الإضاءة الناعمة بعاملين ذوي أصوات حنونة يبيعون أعمالهم الفنية التي يمكنها أن تدر أرباحا بالملايين.

لكن من بين الوجود المألوف للوحات يظهر رجل يرتدي حلة داكنة اللون من وراء ستائر غرفة بيدين متشابكتين ورأس مائل جاذبا إليه الانتباه الذي كان من الطبيعي أن يتوجه إلى بيع واحدة من الروائع الفنية الأوروبية القديمة. حصلت أعمال الفنان جيمس هارت دايك السابقة، وبخاصة المناظر الطبيعية، على نقد فني رائع. لكن ما جعل اسم هارت جزءا من العناوين الرئيسية للصحف في بريطانيا، هو أن عرض عدد كبير من اللوحات الزيتية والمائية في صالة عرض «ماونت ستريت غاليريز» قدم لمحة غير مسبوقة عن عالم خدمة الاستخبارات السرية البريطانية التي لم تسمح لأي دخيل بتصوير عالمها السري من قبل.

كان الرجل الذي يقف أمام نافذة غرفة في فندق، كما تصوره اللوحة، جاسوسا لحساب خدمة الاستخبارات السرية البريطانية التي تعد نظير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. من أو ماذا أو أين كان ينتظر ذلك الرجل.. تُترك لخيال المتلقي، حيث أقسم هارت دايك، الرشيق الأصلع البالغ من العمر 43 عاما الذي تنقل بين جبال الهيمالايا واستمتع بالهبوط بالمظلات وعمل كضابط جيش احتياطي، أن لا يبوح بهذا السر بموجب قانون الأسرار الرسمية قبل أن يدعى إلى قضاء عام في تتبع وتصوير «الجواسيس» الذين يعملون لحساب بريطانيا.

تشير إجابة الفنان عن أسئلة حول المخطط وراء هذه اللوحات إلى تحول طريقة تفكيره إلى السرية خلال الأشهر التي قضاها داخل «فوكس هول كروس»، مقر خدمة الاستخبارات السرية في وسط لندن وفي الرحلات إلى محطاتها في أفغانستان وأفريقيا وشرق أوروبا. وأجاب وعلى وجهه ابتسامة في معرض رده على سؤال حول ما يفعله الرجل الذي تصوره اللوحة: «لا يمكنني أن أقول. إنني آسف.. لكنني أصبحت أجيد ترديد عبارة (لا يمكنني أن أخبرك.. فهذا سر)».

ولا تختلف إجابات هارت ديوك عن اللوحات الأخرى كثيرا عن الإجابة السابقة. ومن هذه اللوحات لوحة بعنوان «عميل يعطي معلومات إلى ضابط في خدمة الاستخبارات السرية» تصور رجلين في غرفة بفندق يميلان بجذعيهما على خريطة منبسطة على السرير ولوحة «عبور جاسوس»، التي تصور شارعا به رجل متجهم ملتح معمم يراقب مرور غريب بجواره، ولوحة «مُتعَقب - أفريقيا» تصور رجلا من السكان المحليين يرتدي قميصا أبيض ويضع يديه في جيبه تتعقبه امرأة ترتدي بلوزة وردية اللون.

وتصور لوحة أخرى لهارت ديوك بعنوان «كاسر الجليد» امرأة شابة أنيقة ذات شعر قصير تجلس على مقعد في حانة وتضع يديها تحت ذقنها وأمامها كأس مارتيني نصف ممتلئة، بينما يجلس شاب وسيم ناعم الشعر يرتدي قميصا رياضيا أسود على بعد مقعدين منها. وتوضح ملحوظة مصاحبة للوحة: «ضابطة تفكر في كيفية بدء محادثة مع هدفها».

من أكثر الأشياء التي تفتقر إليها هذه الأعمال، بعيدا عن المرأة الفاتنة التي تقدم كأس المارتيني، التلميح إلى الوسط الاجتماعي المهذب لجيمس بوند. لقد ظل مفهوم العالم لعقود طويلة عن الجواسيس البريطانيين وشكل ملابسهم وتصرفاتهم والوسائل التكنولوجية المتقدمة التي يستخدمونها أسيرا للصورة التي قدمها جيمس بوند، لكن قال الدخلاء على خدمة الاستخبارات السرية إن الحياة الخيالية للعميل 007 كانت بعيدة كل البعد عن الواقع وما به من تخطيط متعب ومراقبة وانتظار ومواقع قاحلة وخوف. وكما توضح إحدى ملحوظات هارت دايك المدونة: «في عالم الجواسيس تحدث أمور غير اعتيادية وسط جو من الملل». وقد وافق السير جون سكارليت، الذي كان رئيس خدمة الاستخبارات السرية آنذاك، على نهج هارت دايك من أجل تسجيل هذا الواقع للهيئة نفسها، في إطار الملاحظات المئوية على «الخدمة» عام 2009. وقد تم تسجيل حجر الزاوية في وضع خدمة الاستخبارات السرية باعتبارها أقدم وكالة استخبارات في العالم الغربي، في كتاب من 800 صفحة بعنوان «إم 16: تاريخ خدمة الاستخبارات السرية» الذي نشر العام الماضي ويستند إلى أرشيف ما قبل عام 1949 الذي سُمح لمؤلف الكتاب، كيث جيفري، بالاطلاع عليه.

أهم ما يميز التجربتين هو الحذر الشديد الذي يناسب هيئة بدأت تخطو نحو العالم المعلن فقط منذ 20 عاما. فقد ظل مجرد وجودها سرا لعقود طويلة، حيث لم يعلن عن هوية رئيسها إلا عام 1992. وكان سير جون، الذي تقاعد عام 2009، أول رئيس يعلن عن ملفه الشخصي بالكامل عند توليه ذلك المنصب، وكان قد تولى منصب منسق الاستخبارات الرئيسي خلال فترة تولي حكومة توني بلير الحكم قبيل غزو العراق عام 2003.

وقال سير جون، الذي يعمل حاليا مستشارا لدى شركة «مورغان ستانلي» في لندن، خلال مقابلة أجريت عن طريق الهاتف، إن دعوة رسام إلى الولوج داخل الخدمة كان بشكل ما امتدادا لنهج التواصل مع من هم خارج الوكالة. وأضاف: «الوكالة لا تعيش في عالم منعزل. من يتمتعون بالموهبة يساعدوننا طوال الوقت».

لكن ما لم يُقَل هو أن اختيار هارت دايك كان يرجع في الأساس إلى عمله في مشاريع هامة أخرى. فقبل تكليفه المهمة داخل خدمة الاستخبارات السرية قضى دايك أسابيع في عمليات قتالية في أفغانستان مع وحدة المشاة «غرينادير غاردز»، وسافر ضمن جولات رسمية مع الأمير تشارلز.

ويقول دايك إن هدف المشروع كان توضيح «ما يفعله ضباط الاستخبارات السرية دون الإفصاح عن الكثير»، وكان هذا ما يفعله على حسابه. وقد نص هذا الاتفاق على حصول كافة الأعمال الخاصة به على موافقة من خدمة الاستخبارات السرية، وهو ما أدى إلى محو دايك بعض التفاصيل من عدد كبير من لوحاته، مما خلف ما أسماه بـ«الثغرات» في تلك اللوحات. ويوضح دايك قائلا: «أعتقد أن الثغرات تضيف إلى معنى المكيدة».

وما يدل على نجاح هذه الطريقة هو بيع ثلثي أعمال دايك، ومنها «الانتظار في غرفة الفندق»، في ليلة افتتاح المعرض. وقد تراوحت أسعار بيع اللوحات بين 1750 إلى 56400 دولار. كذلك تم بيع نسخ من هذه اللوحات، وذهبت بعض الأعمال الأصلية إلى ضباط في الخدمة أو متقاعدين. وقد أشار الكثير منهم، مثل سير جون، إلى أن اللوحة المفضلة لهم هي اللوحة الزيتية التي تصور عميل استخبارات يقف أمام نافذة في غرفة بفندق.

عمل السير جون خلال حياته المهنية كرئيس لمحطة تابعة لخدمة الاستخبارات السرية في موسكو خلال منتصف الثمانينات. وفي عام 1985 تم تهريب الكولونيل أوليغ غورديفيسكي، وهو عميل مزدوج رفيع المستوى في الاستخبارات الروسية، خارج الاتحاد السوفياتي إلى فنلندا بواسطة سيارة تابعة للسفارة البريطانية، حين كان على وشك أن ينكشف أمره. وأوضح السير جون أن المرور بهذه التجربة ربما جعل للوحة «الانتظار في غرفة الفندق» وقعا مميزا بالنسبة إلى أي ضابط استخبارات يحدد ميعادا سريا. وأضاف: «تقريبا كل من يعمل في خدمة الاستخبارات السرية رأى ذلك المشهد وشعر بالتوتر الذي يسوده».

* خدمة «نيويورك تايمز»