«الجزماتية» حارة لا تنام.. وبين جنباتها أشهر مطاعم دمشق

تعود للعصر المملوكي وفيها تتزاوج العمارة القديمة بالحداثة

حارة «الجزماتية».. مركز الطبخ الشامي التقليدي («الشرق الأوسط»)
TT

كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف صباحا عندما خرج أحمد من أحد مسارح دمشق ومعه ضيفه القادم من إحدى المدن السورية الشرقية. وقبل أن يأخذه لمنزله ليخلدا إلى النوم، قال أحمد لصديقه: ما رأيك في تناول صحن تسقية وفول دمشقيين معتبرين؟! ضحك صديقه مستغربا: ولكن الآن لم تفتح بعد المحلات والمطاعم! فيبتسم أحمد: ومن قال لك إن هناك مطاعم تفتح لتغلق وتعود لتفتح من جديد؟ ألم تسمع بسوق وحارة «الجزماتية» في منطقة الميدان التي تنتشر فيها أشهر مطاعم ومطابخ دمشق؟ هذه الحارة يا صديقي لا تنام فمطاعمها ومطابخها تفتح «24/7»! يضحك الاثنان ويذهبان نحو «الجزماتية» والساعة تشير إلى الرابعة صباحا.

و«الجزماتية» تعتبر من أقدم حارات دمشق خارج السور، حيث تمتد من باب مصلى وحتى الجسر الذي يربطها بحي الميدان وهي تعتبر الجزء الأول منه والموصل لبوابة الميدان حيث كانت تعبرها في السابق قافلة الحج الشامي لتنطلق من بوابتها نحو الأراضي المقدسة. في هذا الحي الدمشقي وعلى امتداده الذي يتجاوز طوله كيلومتر تقريبا يشعر الزائر والعابر بنكهة خاصة له من خلال تزاوج العمارة القديمة مع العمارة الجديدة ويشعر بحميمية تقاليد طعام الأسرة الشامية والبيت الدمشقي من داخله حيث تنتشر في سوق الحي عشرات المطابخ الكبيرة التي تعد وتحضر أشهر المأكولات الدمشقية التقليدية الشعبية من القوزة وحتى الفريكة والقمحية والمقادم واللحومات والكبة وغيرها. وترسل من هذه المطابخ إلى أرقى الأمكنة الدمشقية لتكون سيدة الموائد والعزائم في حفلات السفارات المعتمدة لدى سورية وحفلات غداء وعشاء الشركات والمؤسسات السورية العامة والخاصة. كما اشتهرت «الجزماتية» ومنذ أكثر من ربع قرن بوجود أشهر محلات وورشات تحضير وبيع الحلويات الشرقية الشهيرة، حيث عمد العديد من الأسر الدمشقية المعروفة والعريقة في تحضير الحلويات التقليدية إلى افتتاح ورشها ومحلاتها في الجزماتية بعد أن ضاقت بها ساحة المرجة التي ظلت حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي مركز الحلويات الشرقية الشامية. والزائر للمطابخ ومحلات الحلويات والمطاعم في «الجزماتية» سيقف مندهشا للحظات، ليس لطريقة عرض البائعين لمنتجاتهم؛ بل لإصرار كثير من أصحاب هذه المحلات على تحويلها إلى مكان معماري تراثي جميل حيث استغل هؤلاء المساحات الواسعة في محلاتهم ومطابخهم فاستعانوا بمهندسين ماهرين نفذوا فيها ديكورات زخرفية رائعة تشعر الداخل وكأنه في مبنى دمشقي تاريخي يتناغم فيه الأرابيسك والموزاييك والتصديف مع المأكولات والحلويات التراثية الشهيرة.

ولكن لماذا سميت «الجزماتية» بهذا الاسم؟ ولماذا تلقب حاليا بمركز المطبخ الشامي؟

نذير اللحام؛ أبو هيثم الستيني الوقور ابن حارة «الجزماتية» يحاول الإجابة والإيضاح مما عرفه عن حارته من والده وجده، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «الجزماتية حارة قديمة جدا ويقال إنها تعود للعصر المملوكي واسمها جاء من وجود مصنعي الجزمات الطويلة فيها التي كانت تصنع بشكل يدوي في ورش متخصصة بالحارة وكان ينتعلها الناس في فصل الشتاء وكذلك جنود الجيش. ولكن تغير اختصاص مهنيي الحارة وصار هناك تنوع في محلاتها حتى بداية سبعينات القرن الماضي، حيث بدأ العديد من المحلات، خاصة الكبيرة منها تتحول لمطابخ ومطاعم وحلويات، وعرفت الحارة بتحضير أجود أنواع المسبحة والتسقية، ولذلك صار كثير من الناس يأتون من حارات دمشق الأخرى ليشتروا أو يتناولوا التسقية والمسبحة والفول في (الجزماتية)، ولشهرتها في ذلك، عمد كل أصحاب المطاعم فيها على فتح محلاتهم طيلة اليوم فلا يغلقونها مطلقا».

وحاليا يوجد في «الجزماتية» أكثر من 25 مطبخا كبيرا ونحو 100 محل حلويات لعائلات معروفة في فنون الطبخ والحلويات الدمشقية مثل «بوز الجدي» و«داوود» و«حيدر» و«اللبابيدي» وغيرهم. وهناك من حاول تطوير مطابخه بناء على طلب الناس فافتتحوا مطاعم سميت «مندي حضرموت»، حيث تخصص هؤلاء في تحضير هذه الأكلة اليمنية، وهناك مطاعم تخصصت في تحضير المقادم ورؤوس الأغنام بطريقة لذيذة مثل حشوها بالأرز والصنوبر وطبخها بالسمن البلدي، وتحضير الأكلة الشامية الشعبية المسماة «القبوات» وهي مؤلفة من السجق مع أمعاء الخروف والأزر. «الحارة لا تنام - يبتسم أبوهيثم - فنحن نستقبل ضيوفنا في أي وقت من اليوم وكأنه في منزله عندما يدخل إلى مطاعم (الجزماتية). كما أن الطقس الاجتماعي المتميز في الحارة يشعر الزائر والمقيم فيها بالأمان، فالناس يعرف بعضها بعضا، فليس مستغربا أن ترى نساء وعائلات يسرن ليلا في الحارة، فالأمان والاحترام هو السائد فيها. وهناك عائلات دمشقية عريقة تنتمي لحي (الجزماتية) ومنها العسة واللحام والعابد والنوري والصباغ والفرواتي والحنبرجي وغيرها.

أبو شادي اللبابيدي، شاب من حارة «الجزماتية» لديه محل لبيع الحلويات في الحارة. وكما هي حال معظم أصحاب المحلات يبتسم عندما يشاهد زائرا لحارته مقدما له ضيافة عبارة عن قطعة بقلاوة، وهي ليست فقط من باب الدعاية لمحله. يقول أبو شادي: «الزائر والمتسوق له الحرية في أن يشتري من أي محل في الحارة ولو قمت بتقديم الضيافة له فهذه عادتنا، ونحن في (الجزماتية) نصنع جميع أنواع الحلويات الشرقية مثل المبرومة والبقلاوة وكول شكول وعش البلبل والنواشف كالبرازق والمعمول والحلويات المجففة ومن محلاتنا في (الجزماتية).. نصدر الحلويات لكثير من بلدان العالم».

وفي «الجزماتية» ينتشر العديد من الأبنية التاريخية التي ما زالت قائمة ومنها من يخضع لأعمال ترميم. ومن هذه المباني هناك «حمام فتحي» الذي، ومع موجة تخلي الناس عن حمامات السوق، تحول قبل عشر سنوات إلى صالة تراثية للمناسبات الاجتماعية لأهل الحارة الذين ما زالوا يتميزون بمحافظتهم على العادات والتقاليد الشامية القديمة والترابط الاجتماعي بين الجيران بخلاف الأحياء الدمشقية الجديدة.

ومن الأبنية والمعالم التاريخية في الجزماتية «حمام الرفاعي»، وهو ما زال يعمل كحمام سوق. وهناك جوامع وزوايا صوفية في الحارة؛ ومنها جامع منجك وهو يعود للعصر المملوكي وبني عام 1407م ويتميز ببنائه الواسع وقبته الرائعة ومئذنته المميزة. وهناك مسجد القرشي والرفاعي وجامع الصحابي صهيب رضي الله عنه، وهي تتضمن مقامات للأولياء الصالحين، وهناك الزاوية السعدية.