أسواق النفط تشهد 5 متغيرات بعد أحداث ليبيا

انخفاض سعر الدولار أسهم في ارتفاع الأسعار خلال الفترة الحالية

TT

تشهد أسواق النفط العالمية في الوقت الحالي 5 متغيرات جديدة، وذلك بسبب الاضطرابات الواسعة في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبالتحديد ليبيا، إحدى الدول المنتجة والمصدرة للبترول، وتذبذب مستوى العرض والطلب.وتتمثل المتغيرات الخمسة، التي يتوقع أن تشهدها أسواق النفط خلال فترة مقبلة في اندفاع التداول (المضاربة)، وحجم الطاقة التكريرية، إضافة إلى ميزان العرض والطلب، والعوامل الجيوسياسية، وأخيرا سعر صرف الدولار الأميركي في أسواق المال.

* المتغير الأول: اندفاع التداول (المضاربة)

* تتمحور عمليات التداول للمنتجات البترولية في أروقة بورصات النفط العالمية مثل بورصة (نايمكس) في نيويورك وبورصة لندن الدولية، حيث تصل أحجام صفقات التداول إلى 220 مليون برميل في اليوم مقارنة بمستويات الإنتاج اليومية والتي تعادل 85 مليون برميل في اليوم، ولهذا يتبين الأثر الواضح للمضاربات في حركة أسعار النفط بشكل غير مسبوق.

وتشكل عمليات الإقراض من قبل المؤسسات الاستثمارية لكل من يرغب في التداول تدفقا هائلا للسيولة في بورصات النفط، حيث يتم إيداع 4500 دولار على شكل رهن هامشي لقرض يعادل شراء 1000 برميل من النفط للصفقة الواحدة والذي يساوي حاليا 100 ألف دولار ومن ثم يستطيع المقترض التداول في بورصات النفط العالمية بشرط أن لا يتجاوز التذبذب ما تبقى من رصيد الحساب الاستثماري بعد خصم قيمة الرهن الهامشي وإلا تعرض لعملية تسييل للصفقة والتي تدفع المقترض لتحمل خسائر جسيمة. ومع ذلك تجد الكثير يقبلون على هذا النوع من المخاطر لارتفاع العوائد عند تحرك الأسواق باتجاه الصفقة المنفذة سواء كانت شرائية طويلة المدى أو صفقات بيع قصيرة المدى. أما في ما يخص الحد من تلك المضاربات فقد أقرت مفوضية التجارة الأميركية للسلع الآجلة بعض الإجراءات مثل وضع سقف لعدد الصفقات المنفذة لكل مؤسسة استثمارية، ولكن هذا لم يحد من المضاربات سابقا، حيث أقرت مفوضية التجارة الأميركية للسلع الآجلة تشريعا لحد المضاربات عن طريق رفع هامش الرهن لتنفيذ الصفقات من 1500 دولار إلى 4500 دولار ولكن لم يحد ذلك من أحجام التعاملات اليومية في بورصات النفط الدولية. وبطبيعة الحال فإن مؤسسات الإقراض هي من تدفع المضاربين لتداول السلع في البورصات العالمية وتزيد من شهية المخاطر، خصوصا أن هوامش الرهن التي تمثل من 1 إلى 4 في المائة من قيمة القروض تشجع المزيد من المستثمرين للدخول في مضاربات، مع العلم أن مبدأ تداول السلع في بورصات العالم كان في المقام الأول لتوفير وسائل للتحوط من تغيرات الأسعار للمنتجين لتلك السلع ولكن تداخلت تلك المفاهيم مع مفاهيم الاستثمار الحديث في الوقت الحالي. ومع بروز المستجدات الليبية أضحى ارتفاع أسعار النفط وظهور العناوين المتلاحقة للأحداث في ليبيا دافعا لمن لم يدخل معترك المضاربات سواء من قبيل الاستثمار أو كوسيلة تحوط أخرى لشركات النقل البري والجوي تخوفا من استمرار ارتفاع أسعار النفط. ولم يكن ذلك خافيا على الدول الأعضاء في منظمة أوبك، حيث كانت أصابع اللوم توجه صوب المنظمة البترولية كلما شهدت أسعار النفط ارتفاعا ملحوظا إلا أن منظمة أوبك لم تدخر جهدا لدفع أصابع اللوم إلى بورصات النفط الدولية وأهمها ما تمثل في دعوة المملكة العربية السعودية لتأسيس منتدى الطاقة الدولي ليكون أرضية حوار بين الدول المستهلكة والمنتجة لرسم سياسات نفطية مشتركة تؤول إلى استقرار أسعار النفط في الأسواق الدولية. المتغير الثاني: حجم الطاقة التكريرية يمثل النفط الخفيف 20 في المائة من الإنتاج العالمي من النفط فقط حسب بيانات «تريس داتا إنترناشونال»، ويشكل الطلب عليه نسبة أكبر من النفوط الأخرى لقدرة النفط الخفيف على تحقيق معدلات تحويل أكبر للمنتجات البترولية كالبنزين ووقود الطائرات مقارنة بالنفط المتوسط والثقيل. ولهذا تبادر الصناعات النفطية في تطوير منشآتها لاستيعاب النفط الثقيل وهذا ما تم ملاحظته مؤخرا من استثمار شركات النفط في وحدات التكسير الحراري والتكسير الهيدروجيني في المشاريع الجديدة. ولذلك سيكون الاستثمار في وحدات تقنية عالية الكفاءة السبب الرئيسي في تحديد قدرة المصافي الأوروبية على التجاوب مع المستجدات الليبية، حيث إنه من الصعب أن تعوض تلك المصافي تلك الكميات الوافرة من النفط الخفيف بنفوط أكثر كثافة من الحقول الأخرى القريبة منها. وتعود أسباب الكلفة الباهظة نسبيا لاستخراج النفط الثقيل إلى أنه مادة لزجة جدا ويصعب ضخه واستخراجه من باطن الأرض خصوصا إذا لم يكن في الحقل نفسه غاز طبيعي يرفع من درجة الضغط فيه ويدفع المادة اللزجة لسطح الحقل مما يستوجب وجود مضخات تقوم محل الغاز الطبيعي. وذلك على عكس حقول النفط في الشرق الأوسط التي تكثر فيها كميات الغاز الطبيعي المصاحب في الحقول النفطية.

ومما يزيد المسألة تعقيدا وجود فجوة بين أسعار النفط الخفيف والثقيل تصل حاليا حسب بيانات «تريس داتا إنترناشونال» إلى خمسة دولارات، مما حدا ببعض شركات الطاقة لاستخدام النفط الثقيل، الذي يكبح قدرة المصافي على إنتاج كميات أكبر من الغازولين ووقود الطائرات منه. وبالتالي يتضح أن متغير الطاقة التكريرية يلعب دورا في تحديد كمية الطلب على النفط، بل حتى نوعية ذلك النفط المستخرج، مما يجعل أسواق النفط الأكثر تعقيدا عند محاولة قراءة مستجداتها وآثارها المستقبلية.

* المتغير الثالث: ميزان العرض والطلب

* ما زالت البيانات المدرجة من قبل مبادرة بيانات النفط المشتركة «جودي»، التي تضم بيانات منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية، تشير إلى حالة مستقرة في أسواق النفط، حيث يتجاوز الفائض في ميزان العرض والطلب ما يقارب نصف مليون برميل يوميا، كما أن حجم المخزونات التجارية العالمية يصل إلى 55 يوما من الطلب حسب بيانات «تريس داتا إنترناشونال»، والذي يمثل ارتفاعا بقدر ثلاثة أيام من الطلب مما تستهدفه منظمة أوبك وهو 52 يوما من الطلب.

وهذا يعود إلى أن نسبة الالتزام بسقف الإنتاج من قبل أوبك انخفضت إلى 44 في المائة في يناير (كانون الثاني) 2011 مقارنة بـ 47 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) 2010، أي إن إنتاج أوبك من النفط تخطى سقف الإنتاج بنحو 2.4 مليون برميل مقارنة بما تم الاتفاق عليه عند 24.8 مليون برميل.

ومع أن منظمة أوبك تتوقع في تقريرها الأخير أن ينمو الاقتصاد العالمي بنحو 3.9 في المائة خلال عام 2011 مقارنة بنمو قدره 4.5 في المائة في العام الماضي 2009، فإن «أوبك» أشارت إلى أن ذلك النمو المتوقع جاء على حساب ميزان المدفوعات لحكومات الدول المستهلكة، الذي رفع من نسبة الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.

وذكرت «أوبك» أن معظم النمو المتوقع سيأتي من الدول الآسيوية كالصين والهند، الذي يضع تحديات أمام توقعات النمو، إذا ما استمر ضعف الإنفاق الاستهلاكي في الدول الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بسبب ارتفاع معدلات البطالة، خصوصا أن دعم الإنفاق الاستهلاكي بحاجة إلى عودة القطاع المصرفي إلى التعافي مما يدفع ذلك القطاع إلى الاستمرار في الاعتماد على التدخل الحكومي.

إن ذلك الارتفاع في الدين العام الحكومي للدول المستهلكة يشكل ضغوطا على معدلات الإنفاق الحكومي مما يدفع الحكومات إلى التفكير جديا في خفض حجم الإنفاق لتفادي استمرار ارتفاع تلك الديون، وعندها من المحتمل أن تعود الضغوط الانكماشية على الاقتصاد العالمي، وقد تصيب أسواق النفط بسبب الافتقار إلى دلائل ملموسة على توقعات وكالة الطاقة الدولية لنمو الطلب على النفط، والذي يجعل الاستثمار في زيادة الطاقة الإنتاجية يتم بشكل بطيء ومحاذ لمعدلات النمو التي تتم ملاحظتها على المدى قصير الأجل.

وما زال واقع ومستقبل أسواق النفط قائما على توقعات وافتراضات لا تحتوي على بيانات كافية، خصوصا أن أحد أهم الدلائل الملموسة لنمو الطلب تتمحور حول مبدأ مشاركة مخاطر الاستثمار ما بين منتجي ومستهلكي النفط، الذي ما زال في طور التجربة وقد يكون بداية لتخفيف حدة اللايقين في أسواق النفط. وقد قامت شركة «أرامكو السعودية» بالاستثمار في رفع الطاقة التكريرية عبر تحالفات مع شركات عالمية حتى يتسنى للأولى قراءة الحاجة الفعلية لزيادة الطلب على النفط عبر ضمان صادرات منتجات القيمة المضافة من البترول، مما يمكن شركة «أرامكو» من ربط مشاريع التوسع في إنتاج النفط بما يتم من نمو في حصص شركات البترول العالمية من نمو الطلب على منتجات البترول في الأسواق الدولية.

* حالة الإنتاج النفطي في ليبيا

* يتضمن إنتاج ليبيا العضو في منظمة أوبك من النفط نحو 1.6 مليون برميل يوميا، إلا أن الإنتاج الحالي انخفض كثيرا نتيجة مخاوف لوجستية من قبل الشركة الليبية المشرفة على إنتاج النفط من عدم قدرة المخزونات النفطية في ليبيا من استيعاب الإنتاج الحالي.

وتأتي تلك المخاوف من امتلاء المخزونات على السواحل الليبية بعد توقف ناقلات النفط من استلام شحناتها منذ أسبوع، إلا أن أحد أعضاء لجنة إدارية في شركة النفط الليبية يدعى حسن أبو ليفة أكد أن بعض ناقلات النفط بدأت بالعودة، حيث غادرت ناقلة نفط صينية يوم أمس بحمولة 700 ألف برميل. وقال حسن أبو ليفة إن خفض الإنتاج الحالي كفيل بشراء بعض الوقت قبل أن تمتلئ المخزونات الليبية والتي تهدد بتوقف الإنتاج إذا ما استمرت عمليات التصدير في التباطؤ.

* المتغير الرابع: العوامل الجيوسياسية * أسهمت العوامل الجيوسياسية في استحداث مبدأ علاوة مخاطر لأسعار النفط تصل هذه الأيام إلى 20 دولارا وتعود أسباب ارتفاع علاوة المخاطر إلى اتساع رقعة العوامل الجيوسياسية في الشرق الأوسط لتشمل المزيد من الدول الأعضاء في منظمة أوبك، حيث ما زالت مستجدات الأوضاع في ليبيا تشكل جزءا رئيسيا فيما يتابعه المراقبون في أسواق النفط والمستثمرون في بعض الأصول المتداولة في أسواق المال.

وعند بروز أي أخبار سلبية تندفع التدفقات الاستثمارية لشراء كميات من النفط في الأسواق الآجلة تحوطا من تأثير ذلك على تدفق الإمدادات النفطية. وعلى الرغم من تطمينات صادرة من قبل أعضاء آخرين في منظمة أوبك بضمان الإمدادات والقدرة على تغطية أي نقص وارد في الإمدادات إلا أن حالة اللايقين لدى بعض المراقبين ما زالت تدفع علاوة المخاطر إلى مستوياتها الحالية.

* المتغير الخامس: سعر صرف الدولار

* انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي أصبح متغيرا اقتصاديا جديدا خارجا عن إرادة أسواق النفط أسهم في دفع أسعار النفط إلى الارتفاع، حيث إن ما يسمى بسياسات التيسير الكمي للاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسهمت بشكل لا يمكن إغفاله في رسم توقعات لتضخم أسعار الأصول المالية في أسواق المال، ومنها سلعة النفط.

وشكلت وسائل الاتصال الحديثة زخما للتدفقات الاستثمارية التي تتجول في بيئة شبه مترابطة لأسواق المال يمكنها من تدفق الأموال بشكل لحظي عند ورود بيانات اقتصادية جديدة، وعندها من المنطقي اعتبار سلعة النفط أداة استثمارية للتحوط من هبوط الدولار، وما يهم الكثير من المستثمرين أو المضاربين هو وجود أدوات استثمارية قابلة للتذبذب تمنح درجة من العوائد أكثر ربحية من غيرها من أدوات الاستثمار التقليدية، حتى لو ارتفعت درجة المخاطر المتعلقة بتلك الأدوات.

وقد يدفع ذلك إلى التساؤل عن الكيفية التي يتم بها قياس السعر العادل للنفط والذي قد يكون ممكنا نسبيا عبر وضع إطار سعري يعكس قيمة النفط الحقيقية. وللوصول إلى ذلك الإطار قد يتعين الأخذ بالاعتبار عددا من المعطيات، منها حساب القوة الشرائية للعملة التي يتم بها تسعير النفط، بحيث يتم حساب ما تقدمه تلك القوة الشرائية من سلع وخدمات مقارنة بالضغوط التضخمية الناشئة منذ فك ارتباط العملات بالذهب والفضة في 1973. إلى جانب مقارنة معدلات كفاءة الطاقة لكل دولة لقياس مدى انخفاض أثر أسعار النفط على نمو الاقتصاد، حيث إذا كانت كلفة إنتاج دولار واحد عام 1973 في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة نحو 17.3 وحدة حرارية، فقد أصبحت الكلفة حاليا 7.6 وحدة حرارية، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار النفط أخيرا لم يكن كابحا لنمو الاقتصاد العالمي. إن أسعار النفط الحالية لا تثير القلق على الاقتصاد العالمي نتيجة ارتفاع نسبة قطاع الخدمات في الاقتصاد العالمي مقارنة بقطاعات أخرى حسب بيانات لشركة «تريس داتا إنترناشونال» التي تشير إلى أن أسعار النفط الحالية أقل أثرا على الاقتصاد العالمي بنحو النصف مقارنة بعام 1973. وقد أكد رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي بن برنانكي في كلمة ألقاها في جامعة هارفارد في يونيو (حزيران) 2008.

أن ارتفاع أسعار النفط لا يدفع إلى الشعور بالتضخم بسبب تحسن كفاءة الطاقة في الاقتصاد العالمي حاليا مقارنة بفترة السبعينات من القرن الماضي.