دعوات متزايدة لإدخال «علم النفس الإيجابي» في مجالات العمل

يسهم في زيادة الإنتاجية وتحسين العلاقات الإنسانية.. والمنطقة العربية بحاجة ماسة إلى ذلك

«الكتاب الأحمر» لعالم النفس سي جي يونغ يعتبر من أكبر كتب علم النفس في تاريخ هذا الفرع من العلوم الإنسانية
TT

فرضت التغيرات العالمية المعاصرة في عالم العمل والوظائف، العديد من التحديات والضغوط اليومية المتزايدة على العاملين في مكان العمل، التي من بينها، ارتفاع معدلات البطالة، والقلق من فقدان الوظيفة وصعوبة الحصول على فرصة عمل أخرى في المستقبل، وعدم الحصول على رعاية صحية بأسعار مناسبة، والنقص في الأجور وعدم كفايتها لمتطلبات الحياة اليومية، ونمط وأساليب التعامل والعلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين في العمل.. إلى غير ذلك من ضغوط عديدة تواجه العاملين، وتؤثر على دافعيتهم للعمل وعلى حياتهم الشخصية ومستوى سعادتهم، كما تنعكس على مستوى الأداء ومعدل إنتاجية مؤسسة العمل.

ولكن، كيف يمكن خلق بيئة عمل مناسبة وناجحة وتطويرها باستمرار لتكون أكثر إيجابية للعمال ومؤسساتهم، ويمكن أن تسهم في زيادة دافعيتهم وابتكاريتهم وكفاءتهم وشعورهم بالرضا وتسلحهم بالأمل والعزيمة؟ وكيف يمكن مساعدة العاملين على التحكم في سلوكياتهم وانفعالاتهم والصمود أمام التحديات والمشكلات والضغوط والشدائد والمحن؟ وما المفاهيم النفسية المرتبطة بالجوانب والعلاقات الإنسانية والشخصية والاجتماعية الإيجابية الأكثر أهمية التي يجب على رؤساء العمل التركيز عليها في علاقاتهم وتعاملاتهم مع العاملين، التي تعد رأسمال نفسيا وخطوط دفاع مهمة تسهم في تحقيق مستوى أفضل من الرضا والتكيف، ولمساعدتهم بفاعلية على فتح قلوبهم وعقولهم والتعرف على إمكاناتهم الإيجابية ومعرفة كيفية توظيفها وتنميتها لزيادة مستوى الأداء والإنتاجية لتحقيق أهداف ورسالة مؤسسة العمل؟ وما دور الانفعالات الإيجابية مثل الذكاء العاطفي أو الوجداني أو الانفعالي، والتعاطف والإيثار والتسامح والعفو والصفح والتفاؤل والأمل، في تحقيق السعادة والحب والأمن والرضا عن العمل والحياة وتوطيد العلاقات الإنسانية وزيادة الدافعية والإبداعية؟ وما دور القيم الدينية والروحية والأخلاقية في تحقيق التكيف وتطوير الذات وإنجاز الأهداف والحماية والوقاية من الاضطرابات والمشكلات النفسية والسلوكية؟ وكيف يمكن للرؤساء حل مشكلات العمل واتخاذ قرارات صائبة بحكمة وروية دون التأثير على نفسيات وإمكانات العاملين، للمضي قدما والتطلع لمستقبل أفضل للعاملين ولمؤسسات عملهم، الأمر الذي يسهم في النهاية في تحقيق الرفاهة والسعادة والأهداف الاقتصادية والتنمية الشاملة المتكاملة في المجتمع؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، ظهر تيار جديد في علم النفس، يعرف بـ«علم النفس الإيجابي»، وهناك دعوات عديدة متزايدة حاليا نحو الأخذ به في أماكن العمل نظرا لتطبيقاته وآثاره الواعدة في جميع مجالات الحياة.

وقد تم تأسيس علم النفس الإيجابي (Positive Psychology) عام 1998، على يد عالم النفس الأميركي البروفسور مارتن سيليغمان مدير مركز علم النفس الإيجابي في جامعة بنسلفانيا الأميركية، وأصبح هناك حاليا اهتمام متزايد بهذا العلم، حيث تم تأسيس العديد من الأقسام والمراكز وإجراء الدراسات العلمية وتنظيم المؤتمرات المتخصصة حول العالم، التي تعني بهذا العلم وتطبيقاته المهمة في العديد من المجالات. ويركز هذا العلم على دراسة وتحليل مواطن القوة والإبداع والعبقرية، ودور الخصائص الإنسانية الإيجابية مثل الرضا، والتفاؤل، والامتنان والاعتراف بالفضل، والصفح والعفو، والتسامح، والأمل، والإيثار، والتعاطف، والتقدير الاجتماعي، والتحكم في الذات، وحب الاستطلاع، في تحقيق وتعزيز السعادة الشخصية للفرد في مختلف أنشطته وممارساته اليومية، حيث يساعد الأفراد والمؤسسات على اكتشاف قدراتهم ومواطن قوتهم الإيجابية، وتنمية كفاءتهم الذاتية، الأمر الذي سينعكس على صحة وإنتاجية الأفراد وتحسين جودة حياتهم وزيادة فعالية المؤسسات بصفة عامة.

يرى علماء علم النفس الإيجابي، أن تمتع العاملين بالتفاؤل والأمل، يجعلهم أكثر قدرة على أداء وإكمال مهامهم الوظيفية بصورة أفضل وشعورهم بالرضا والسعادة والالتزام في العمل، والصمود أمام العقبات والضغوط، ويمنحهم التعزيز الاجتماعي لمواجهتها، كما أن ضبط النفس يمنحهم القدرة على التركيز المستمر في أداء الأعمال، والتفكير المستقبلي الذي يدفعهم للأمام لأداء مهام أكبر، كما أن الحفاظ على انفعالات ومواقف تفاعل إيجابية سوية بين العاملين في مؤسسات العمل، يساعد على تحسين صحتهم النفسية، كما يشجع على النمو والازدهار والإنتاجية على المستويين الفردي والتنظيمي. ويجيب علم النفس الإيجابي عن سؤال مهم وهو: كيف يمكن بناء أماكن وبيئات ومنظمات عمل إيجابية للأفراد والمؤسسات، وإعداد قادة يتمتعون بخصائص وأهداف علم النفس الإيجابي؟

على سبيل المثال؛ كيف يمكن لأصحاب الأمل والتفاؤل، أن يجدوا طرق الوصول لأهدافهم أو تغيير الأهداف التي يستحيل تحقيقها، وتخطيط حياتهم بما يحقق لهم أهدافهم، يقول عالم النفس الأميركي دانييل غولمان في كتابه الشهير «الذكاء العاطفي أو الانفعالي أو الوجداني»، إن الأمل من منظور الذكاء الاجتماعي يعني أن لا يستسلم الفرد للقلق تماما أو للمواقف الانهزامية، أو للاكتئاب، في مواجهة التحديات. والتفاؤل، مثل الأمل يعني أن يتوقع الفرد توقعا قويا بأن الأمور سوف تتحول في الحياة إلى ما هو أفضل على الرغم من الإحباطات، والتفاؤل بمفهوم الذكاء العاطفي، موقف يحمي الأفراد من الوقوع في اللامبالاة، وفقدان الأمل، والإصابة بالاكتئاب، في مواجهة مجريات الحياة القاسية. والتفاؤل مثل الأمل يعلي نصيب الفرد من المكاسب في حياته، على أن يكون تفاؤلا واقعيا، أما التفاؤل المفرط في السذاجة قد يسبب الكوارث، فالأمل والتفاؤل من أعظم الدوافع لتحقيق الأهداف.

ويحدد سيليغمان، مفهوم التفاؤل بالكيفية التي يفسر بها الأفراد لأنفسهم نجاحاتهم وفشلهم، ولهذه التفسيرات دلالات عميقة لكيفية استجابة الأفراد لأحداث وضغوط الحياة. فالمتفائلون يرجعون فشلهم لشيء ما يمكنهم تغييره، لينجحوا فيه في المرة المقبلة، بينما المتشائمون يلومون أنفسهم ويرجعون فشلهم لبعض صفاتهم الدائمة، التي يعجزون عن تغييرها. فعندما يواجه المتفائلون مشكلة ما في حياتهم، كأن يرفض لهم طلب للحصول على وظيفة، فإنهم يميلون وكرد فعل لها، إلى تقبل هذا الموقف بإيجابية وأمل، ثم يضعون خطة جديدة للعمل، أو يسعون لطلب المساعدة والنصح من الغير، فالانتكاسة بالنسبة لهم يمكن علاجها، أما المتشائمون فيتصورون أنفسهم عاجزين عن فعل أي شيء يمكن أن يغير الأمور في المرات المقبلة، وبالتالي لا يفعلون شيئا بخصوص المشكلة التي تواجههم، فهم يرجعون ذلك إلى عجزهم الشخصي الذي سوف يظل يسبب لهم الإخفاق دائما.

ومن الدلائل على قوة التفاؤل في إثارة الدافعية لدى الأفراد، الدراسة التي أجراها سيليغمان على مندوبي بيع شهادات التأمين في شركة «ميتلايف»، ففي كل أنواع عمليات البيع، خاصة في شهادات التأمين، تكون القدرة على تقبل الرفض بلباقة أمرا أساسيا، فمن المعروف في هذا المجال أن معدل من يقول «لا» بالنسبة لمن يقول «نعم»، يكون مرتفعا بشكل مثبط للهمم. ولهذا، فإن ثلاثة أرباع من يشغلون هذه الوظيفة في شركات التأمين، يتركون العمل في السنوات الأولى. وجد سيليغمان أن مندوبي البيع الجدد المتفائلين بطبيعتهم، قد باعوا من شهادات التأمين في السنتين الأوليين ما يزيد على المتشائمين بنسبة 37 في المائة، وكان عدد من تركوا الخدمة من المتشائمين ضعف عدد المتفائلين، وعندما حث سيليغمان شركة «ميتلايف»على تأجير مجموعة خاصة من طالبي الوظيفة الذين حصلوا على درجات مرتفعة في اختبار التفاؤل، لكنهم فشلوا في اختبار كشف الهيئة، زادت مبيعات هذه المجموعة على مبيعات المتشائمين بنسبة 21 في المائة في السنة الأولى؛ و57 في المائة في السنة الثانية.

لماذا كان التفاؤل سببا في اختلاف النجاح في عمليات البيع؟ يقول غولمان إن التفاؤل يخاطب الإحساس الذي يتضمن موقفا عاطفيا ذكيا، فكلمة «لا» تمثل لمندوب المبيعات المتفائل الذي يسمعها هزيمة صغيرة، يكون رد فعلها الانفعالي عنده ضروريا، حيث يستجمع قدرته على تحريك ما لديه من دافع للاستمرار، وكلما زاد عدد كلمات «لا»، كانت إمكانية انهيار المعنويات أكبر، ومهمة الاتصال التليفوني التالية بالأفراد ذات صعوبة متزايدة، ويصعب على المتشائم تحمل مثل هذا الرفض، حيث يترجمه إلى العبارة: «أنا فاشل في ذلك، ولن أستطيع أن أبيع شيئا»، التي سوف تدفعه إلى اللامبالاة والانهزامية، إن لم تصل إلى الاكتئاب، فهم يرون الفشل في أنفسهم. أما الأفراد المتفائلون فيقولون لأنفسهم: «قد يكون مدخلي مدخلا خاطئا» أو: «الفرد الذي تحدثت معه كان في ظروف نفسية سيئة»، فهم يرون أن السبب في فشلهم كان شيئا ما في الموقف وليس في أنفسهم، ويمكنهم تغيير أسلوبهم في المكالمة التليفونية التالية. فالمتشائم تقوده حالته الذهنية إلى اليأس، بينما المتفائل تقوده حالته الذهنية إلى الأمل.

أصبحت هناك ضرورة عاجلة في عالمنا العربي للاهتمام بعلم النفس بمختلف أقسامه وتخصصاته والعلوم الاجتماعية الأخرى، كما هي الحال في الدول المتقدمة، وتقديم الدعم المادي والمعنوي المناسبين، وإدراك قيمة وأهمية هذه العلوم ومساهماتها الإيجابية الفعالة وتطبيقاتها الحياتية المختلفة في حل العديد من القضايا والمشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا وتهدد أمنها واستقرارها، وتؤثر في التوافق النفسي والاجتماعي للأفراد، مع أهمية العناية بالجوانب والإمكانات الإيجابية في شخصية وحياة المواطن العربي، التي تعينه على مواجهة الشدائد والمحن، ومواصلة مسيرة البناء والتنمية المجتمعية والبشرية الشاملة، وبما يحقق في النهاية رضاه عن حياته وسعادته ورفاهة مجتمعه.