«العم صلاح».. خطاط «ثورجي» في ميدان التحرير

يؤلف ويكتب الهتافات ويرسم علم مصر على الوجوه

«العم صلاح» يكتب بفرشاته أحد الهتافات في ميدان التحرير (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

رحلة عمر طويلة قضاها هذا الرجل على باب الرزق، فكل صباح يحمل صندوقه الخشبي الصغير، الذي يضع فيه أدواته وفرشاته وألونه كتلميذ في الستينات من عمره يذهب من جديد لحصة الرسم، قاطعا به عدة كيلومترات في شوارع العاصمة المصرية القاهرة، حتى يصل إلى مقر عمله في الهواء الطلق، في «ميدان التحرير»، مسرح أحداث ثورة «25 يناير» التي أطاحت بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

وبروح وثابة، يجوب كافة أرجاء الميدان مختلطا بالمتظاهرين، لا تفارقه ابتسامة الرضا وهو يرد على نظرات شباب الثورة إليه، فهم كما يقول، أحيوا فيه الأمل مرة أخرى، ليس فقط لأنهم أعادوا لمهنته بريقها، ولكن لأنهم أعطوا لحياته معنى بعد أن فقدت معناها طوال سنوات عمره التي قضاها بين أنظمة حكم عبد الناصر والسادات ومبارك.

لا يمتلك «العم صلاح الدين» محلا خاصا يمارس فيه مهنته، لكنه يجوب الشوارع يتعرف على الناس وينتظر مواسم الانتخابات ليحصل منها على بعض الأموال تكفيه وأسرته حتى يأتي موسم آخر تزدهر فيه مهنته، ولكن في الآونة الأخيرة أجبرته مهنته على الانخراط في السياسة فيقول: «عاصرت الرؤساء الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك، وكلهم كانوا أسوأ من بعض ولم نجد منهم أي خير، وهذه الثورة جاءت لتحررنا ويجب أن يحكمنا من نريد».

يخلص «العم صلاح» في عمله، ويعتبره مفتاح الرضا والنجاح ، فبينما كان المتظاهرون في ميدان التحرير ينزلون ومعهم الأقنعة وزجاجات الخل والمياه الغازية استعدادا لموجات القنابل المسيلة للدموع المتوقعة من قبل قوات الشرطة في أثناء الثورة المصرية، كان العم «صلاح» ينزل إلى الميدان حاملا فرشاته وألوانه ولوحاته الورقية يؤيد الثورة ولكنه يقول «كنت أؤيد كل مطالب الشباب في الثورة وأنزل معهم في المظاهرات، ولكنني كنت أيضا أسعي لكسب الرزق عن طريق كتابة الهتافات التي يريدها المتظاهرون على لوحاتي مقابل أجر بسيط»، ويتابع: «هذه اللوحة لا يقل ثمن كتابتها عن 15جنيها إلا أنني أبيعها للمتظاهرين بخمسة جنيهات فقط». ولا يقتصر عمل «العم صلاح» على كتابة الهتافات على لوحاته للمتظاهرين ولكنه أيضا يعدد هتافات يبتكرها بنفسه ويقترحها على المترددين عليه، فكما يقول: «أنا أتابع الأخبار جيدا وأعرف مطالب الثوار وهمومهم لأنها همومي وأتعرف من خلالها على ما يمكن أن يكون مقبولا من هتافات في (جمعة القصاص) مثلا عنها في (جمعة الثورة أولا)».

يقول «العم صلاح» وهو منهمك في اللعب بالحروف والكلمات في كتابة الشعارات التي يطلبها منه المتظاهرون: «الثورة دي كانت لازم تقوم من زمان، لأنها حاجة كنا عايزنها.. البلد كان كلها فساد».

من وجهة نظر خطاط التحرير، فإن أهم شيء بالنسبة له هو الحصول على رغيف خبز وتوفير الحياة الكريمة له ولأسرته والحصول على شربة مياه نظيفة ولقمة عيش لا تلاحقها المواد المسرطنة كمطالب الملايين من الفقراء مثله في مصر، الذين رأوا الأمل في قيام الثورة، ولكنهم إلى الآن لم يلمسوا نتائجها.

يحرك الرجل أصابعه التي اختلفت ألوانها ما بين الأحمر والأبيض والأسود وهي الألوان التي يستخدمها في كتابة الهتافات والشعارات على لوحات بيضاء يطلبها منه المتظاهرون، ويقول متحدثا عن الثورة: «المجلس العسكري سمعت امبارح أنه اتبرع ب-10ـ مليون جنيه عشان أسر الشهداء، وأنا مع المظاهرات السليمة دا أكل عيش بس ياريت الحكومة تمسك البلطجية اللي بيخوفوا الناس والمتظاهرين»، هكذا وببساطة شديدة يلخص «العم صلاح» رؤيته للثورة، فهو يريد أن يحيا حياة كريمة وينتظر هو وغيره من الطبقات الفقيرة أن يعمل كل من المجلس العسكري الحاكم والحكومة على تلبية هذه المطالب البسيطة من توفير المال والخدمات والأمن، هذه هي مطالب الفقراء من الثورة. ثم يطرق يرأسه قائلا: «الدكتور عصام شرف (رئيس الحكومة) بطل طلع من الميدان، بس إحنا عاوزينه يرجع لنا حقوق الناس اللي ماتت في الميدان على أيدينا، ولازم المحاكمات تكون سريعة عشان البلد تهدأ وترجع أحسن من الأول».

وعلى الرغم من أن «العم صلاح» يفتخر بما يعمل كما يفخر بمشاركته للثوار في ميدان التحرير، فإنه يقول حزينا: «أبنائي رفضوا أن يعيشوا في جلباب أبيهم، ورفضوا أن يكونوا مثلي، ولكني لم أجبرهم على امتهان هذا العمل على الرغم من من حبي له، إلا أنني حزين للغاية لأن كثيرا من الناس لا يعرفون قيمة هذه المهنة، والواحد مش لازم يكون دكتور ولا مهندس عشان يعجب، أهم حاجة أنه يكون بيحب شغلته».