في كل اسبوع تقريبا كان والدا زياد الجراح يصحبانه في طفولته ومراهقته من بيروت ـ التي دمرتها الحرب الاهلية ـ الى قرية المرج في وادي البقاع ليلعب مع ابن عمه سالم.
فارق العمر بين ابني العم 40 يوما فقط وهما من اسرة متماسكة وميسورة. وتعلم زياد وسالم ركوب الدرجات وقيادة السيارات معا، وكيفية التهرب من خطط اسرتيهما بالنسبة لمستقبلهما. وكانا مثل التوأم اكثر من كونهما ابناء عمومة. وقد غادر الاثنان لبنان معا في 4 ابريل (نيسان) 1996وهما في العشرين من العمر، وتوجها الى مدينة غريفسفالد في شرق المانيا لمتابعة تعليمهما وحياة هادئة.
سالم متزوج الان من امرأة المانية ولديه ابنة صغيرة ومطعم مزدهر في غريفسفالد. وهو نموذج للاندماج والرضا. وكان زياد في طريقه للعمل في مجال الطيران وحياة عائلية سعيدة ـ الى ان ظهر في قائمة مكتب المباحث الفيدرالي لـ19 ارهابيا مشتبه في مسؤوليتهم عن هجوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي على نيويورك وواشنطن.
والسؤال الذي يحيط به الغموض هو: كيف يمكن لشاب انيق محبوب يبدو انه بلا خصام مع العالم الغربي، المشاركة في عملية قتل جماعي؟ لا يعرف عن الحياة الشخصية لمعظم المشتبه فيهم الا القليل، إن لم يكن لا يعرف شيئا عنهم، فمن بين المشتبه فيهم الـ19، محمد عطا والجراح فقط تركا خلفهما سلسلة طويلة من المعارف. ولكن الاسرة والاصدقاء يقولون ان الجراح الذي يعرفونه لم تبد عليه مظاهر الاستياء السياسي او التفكير الثقافي المحافظ الذي ظهر على عطا. بل انهم يتذكرون الجراح كشاب هادئ مدلل وكسول يحب امرأته حبا جنونيا. ويسألون كيف يمكن ان يتحول شاب سعيد وذكي، قناعاته السياسية والدينية محدودة للغاية، الى انتحاري في عملية جهاد؟ وبغياب الاجوبة لم يبق امامهم سوى التكهن بأنه تعرض لعملية غسل دماغ.
ويصر المحققون الالمان والاميركيون على ان الامر اكثر من مجرد صدفة، فالشاب اللبناني البالغ من العمر 26 سنة، كان في واحدة من الطائرات الاربع المخطوفة. والجراح درس في هامبورغ، حيث كان يعيش اثنان من قادة العملية الارهابية المشتبه فيهم هناك. وقد درس الطيران للحصول على رخصة من فلوريدا على بعد اميال قليلة من الاثنين الاخرين. وفقد جواز سفره قبل عامين في نفس الوقت تقريبا الذي فقد فيه الاثنان الاخران المشتبه فيهما جوازي سفرهما، مما دفع المحققين الى الاعتقاد بانهم كانوا يحاولون تخليص وثائق السفر الخاصة بهم من تأشيرات ربما تثير الشبهات.
وتوجد تفاصيل متعارضة ومتناقضة للشهور التي قضاها الجراح في فلوريدا لم يتمكن الاصدقاء وافراد اسرته من شرحها. لماذا استأجر كوخا مع شخص اخر من المشتبه في ضلوعهم في خطف طائرة يونايتد ايرلاينز، الرحلة رقم 93 في اواخر الصيف؟ لماذا تلقى والعديد من المشتبه فيهم تدريبات لياقة بدنية؟ وبالاضافة الى الاختطاف، ما هي الاسباب الاخرى التي جعلته يركب الطائرة المتجهة من نيويورك الى سان فرانسيسكو، والتي تحطمت في حقول في بنسلفانيا وقتل بتحطمها 45 راكبا وافراد الطاقم.
وطبقا لاول تقرير من مكتب المباحث الفيدرالي (إف. بي. آي) يلفت انتباه شرطة هامبورغ الى علاقتها بالعملية الارهابية (الذي حصلت صحيفة «لوس انجليس تايمز» عليه) فإن الجراح والرجال الثلاثة على قائمة المختطفين، اي احمد الحزناوي واحمد النعمي وسعيد الغامدي، ظهروا على قائمة الارهابيين المشبته فيهم لأنهم يحملون اسماء عربية في قائمة ركاب الرحلة 93.
الا ان الاسباب التي دفعت الشرطة الى الاعتقاد بان الجراح كان من مجموعةالخاطفين لم تكشف ابدا، فأول قائمة علنية للمشتبه فيهم اصدرها مكتب المباحث الفيدرالي في 14 سبتمبر، لم تقدم اية معلومات عن الجراح باستثناء اسمه وعبارة «يعتقد انه الطيار».
وقد صدرت هذه القائمة في واشنطن بعدما ابلغت صديقة الجراح في المانيا،اسيل سنغوين، الشرطة في بلدة بوخوم انه مفقود.
الا ان الشرطة والمسؤولين الالمان ذوي الصلة بالتحقيقات ذكروا انهم لا يملكون معلومات كافية تربط الجراح بالمشتبه فيهما في احداث 11 سبتمبر خلال اقامتهما في المانيا في وقت واحد، أي محمد عطا ومروان الشحي.
وكشفت المدعية الفيدرالية، كاي نيهم، الاشارة الاولى عن العلاقة يوم الجمعة عندما لمحت الى وجود صورة تظهر الجراح في حفل زواج عقد في عام 1999 لهارب من وجه العدالة معروف بآرائه المتشددة هو سعيد بهاجي الذي كان أقام لفترة مع عطا والشحي.
السلطات الفيدرالية الالمانية سحبت تأكيداتها السابقة عن اقامة الجراح لبعض الوقت وتردده على الشقة التي استأجرها الثلاثة بهامبورغ. وقال مسؤول الماني كبير ان الجراح: «لم يعش مطلقا مع الاخرين. وقد اقام اثناء وجوده بهامبورغ بثلاث شقق، لم يشارك الآخرين في أي منها». ومع ان الجراح كان موجودا بهامبورغ في فترة كان فيها عطا والشحي يقيمان بنفس المدينة، أي الفترة بين 1997 و1999، الا انه كان يعيش في مناطق اخرى من المدينة. ولم يعرف عنه انه كان يتردد على مسجد «شتايندام» المشتبه في أنه كان ملتقى المتهمين الاخرين وزملائهم من منظمة القاعدة التابعة لأسامة بن لادن.
ظلت سنغوين تعيش في عزلة وفق مقتضيات برنامج لحماية الشهود، منذ ان ابلغت عن غياب الجراح ولم تتحدث الى الصحافيين منذ ذلك الوقت. ولكنها ظلت على صلة باسرتها واصدقائها عن طريق الهاتف وكانت تردد انها لا تعتقد انه كان من ضمن الخاطفين. ويذكر عم الجراح، جمال الجراح، انه في محادثة مع سنغوين من لبنان قالت له انها لم تسمع زياد يذكر اسم عطا او أي واحد من الـ19، وانها ظلت على صلة عميقة به طوال السنوات الاخيرة، مضيفة انه «لا يمكن ان يفعل ذلك».
وتتذكره روزماري كانيل، التي استأجر منها غرفة بهامبورغ، كرجل هادئ ومهذب ولم يكن له سوى ضيوف قلائل، وانه كان يقضي الليل في الدراسة او مشاهدة التلفاز. وكان في عطلات نهاية الاسبوع يذهب الي سنغوين، اولا فيغريفسالد حيث التقيا عام 1996، ثم في بوخوم حيث انتقلت عام 1999 لدراسة الطب. وقد اجتازت امتحاناتها النهائية بجامعة رور قبل ايام قليلة من 11 سبتمبر.
وتقول غردون شيمبفكي، من جامعة غريفسفالد ارنديت، والتي علمت الجراح اللغة الالمانية انه كان شابا «لطيفا حلو المعشر». ويقول صديق العائلة محمود علي، مالك احد الفرق الرياضية بدسلدورف والذي تحدث مع الجراح لآخر مرة في يوليو (تموز) الماضي، ان الجراح كان يتصل باسرته كل اسبوع وكان على اتصال يومي تقريبا بسنغوين. وقال «ليس في شخصيته ما يحمله على اتيان عمل كهذا. لا من ماضيه ولا من اسرته ولا من بلده».
ومع ان الجراح قضى السنوات الـ14 الاولى من حياته في بيروت الا ان اسرته تصر على انه لم يتعرض لأي مشقة او حرمان، وانه لم يبد أي اهتمام بالسياسة. وقد تعلم الجراح في مدارس مسيحية وتخرج من مدرسة فرنسية عليا اجاد فيها الفرنسية والانجليزية، وكان يتحدثهما بطلاقة.
وقال علي ان عائلة الجراح من العائلات البارزة بالمرج. فوالد زياد، سمير الجراح، ووالد سالم، كانا من كبار الموظفين بنظام الضمان الاجتماعي في لبنان. وتشمل العائلة كذلك موظف بنك وموظفا كبيرا في الجمارك. وقد عاش علي في المانيا لمدة 16 سنة وكان رجل اعمال راسخ القدم بدسلدورف عندما وصل زياد وسالم الى هناك عام 1996. ويذكر على ان سمير قال له اعطهما كل ما يحتاجان اليه، ولكنه يقول ان زياد لم يطلب مالا ابدا. وكان فقط يستفيد من علاقات على في الحصول على تذاكر طيران رخيصة. وكان يعيش على الـ700 دولار التي كان يرسلها والده شهريا. وقد رفع ذلك المبلغ الى 2000 دولار العام الماضي عندما ذهب الى فلوريدا للتدريب.
بدأت علاقة الجراح وسنغوين بعد فترة قليلة من وصوله الى المانيا عام 1996. وقد رحل معها الى بوخوم اواخر عام 1999 ومع ذلك كانا يخفيان علاقتهما عن والديها المحافظين من تركيا. وقد قابلته سنغوين لآخر مرة في منتصف يوليو. اذ عاد بعد اقل من اسبوع الى فلوريدا، مما اضطره الى التغيب عن حضور زواج شقيقته دانيا في بيروت في الثاني من اغسطس (آب) وذلك لأنه كان مطالبا بتقديم امتحان شهادة الطيران، كما قال لسنغوين وعلي. وتوضح السجلات ان الجراح نال شهادة الطيران يوم 30 يوليو بعد ان اكمل بنجاح تدريبا استمر 6 اشهر بمركز طيران فلوريدا، بفينيس.
ويقول زملاء لزياد الجراح في مدرسة الطيران التي التحق بها انهم «لم يروا فيه شخصا ارهابيا». يقول آرن كرويتهوف، مدير «مركز فلوريدا للتدريب على الطيران» ان طاقم المركز بكامله لا يصدق ان «للجراح نيات سيئة»، ويضيف ان افراد طاقم المركز والدارسين الذين اجرى معهم تحقيقا حول الجراح «يشعرون بالصدمة لأنه صديق للجميع». وأكد كرويتهوف انه لا يوجد لدى كل من عرف الجراح سواء كان وسط المدربين او زملاء الدراسة أي شيء سلبي يمكن ربطه بتعامله بصورة عامة.
وكان الجراح قد اتصل هاتفيا باسرته قبل يومين من الهجمات للتأكيد لهم بأنه وصديقته سنغوين سيصلان الى بيروت في 22 سبتمبر الماضي لحضور زواج شقيقة سالم الصغرى. وقال علي، صديق الاسرة، ان سنغوين اتصلت به يوم 11 سبتمبر لابلاغه بانها تحدثت لتوها مع زياد، أي قبل حوالي ساعة من ركوبه على متن الرحلة 93. ووصفت سنغوين المكالمة بأنها كانت لطيفة وعادية، رغم انه لم يتضح بعد ما اذا كانت هي على علم بسفره في ذلك اليوم.
وفي سياق ازدياد المصادفات المثيرة للاهتمام، فإن الجراح سافر الى لاس فيغاس قبل ثلاثة اشهر من الهجمات الارهابية، ووصف عمه في لبنان تلك الرحلة بأنها «رحلة مقامرة»، بيد ان تلك الاقامة المؤقتة من 7 وحتى 10 يونيو (حزيران) تشير الى اتصال آخر محتمل بخاطفين آخرين. كما ان عطا والشحي وثلاثة متهمين آخرين نظموا رحلة الى لاس فيغاس خلال الفترة بين مايو (ايار) واغسطس، رغم ان أيا منها لم يتداخل مع رحلات الجراح.
شأنه شأن عطا والشحي، ابلغ الجراح السلطات بفقدان جواز سفره أواخر عام 1999 وحصل على جواز سفر جديد من القنصلية اللبنانية في بون بألمانيا. وتشك السلطات في ان دافعهم وراء الحصول على جوازات سفر جديدة هو الرغبة في التخلص من تأشيرات افغانستان او أي دول اخرى، رغم ان سالم الجراح، ابن عم زياد، قال انه لم يحدث ان تغيب خلال تلك الايام. رغم ان الجراح كان يدفع مصروفاته نقدا من الاموال التي كانت ترسلها له اسرته، فإن وثائق التحقيق الفيدرالية تشير الى انه كان يستخدم كذلك بطاقة دفع مصرفية مثل عطا والشحي. وكان الجراج يقضي الكثير من اوقات الفراغ في التدرب على الدفاع عن النفس في صالة للتمرينات الرياضية في ديانا بيتش. كما ان عددا من المشتبه فيهم الآخرين كانوا يتلقون تدريبات رياضية في اماكن مختلفة.
وتعرفت على الجراح سيدة من «لودرديل باي ذا سي» اجرته منزل عطلات صغير اواخر فصل الصيف مع مشتبه فيه آخر لقي حتفه في الرحلة 93 هو احمد الحزناوي، الذي لم يلتقه الجراح مطلقا في السابق. يشعر كل من كان يعرف الجراح بالدهشة. ففي واحدة من الصور التي التقطت له خلال وجوده في بيروت مطلع العام الحالي، ظهر وهو يرتدي معطفا وربطة عنق ونظارة راقية وشعره مسرح الى الخلف ويده على كتف والدته نفيسة.
قال علي ان الكثيرين طلبوا منه ان «يتزوج من اسيل ويخرجوا من الغرفة الضيقة في مبنى سكن الطلاب»، مؤكدا انه كان يحبها كثيرا. اما الحديث المستمر حول العيش معها، فربما يكون امرا قد تعود عليه الجراح في ما يبدو.
وقال عبد الله المخادي، وهو زميل دراسة لسنغوين ومؤسس مسجد كان يستقبل ما يزيد على 500 من الطلاب الاجانب من الدول الاسلامية، انه كان ينتقد الجراح كثيرا على العيش مع سنغوين لأن الاسلام يمنع ذلك. وأضاف المخادي ان الجراح كان يؤدي صلاة الجمعة، لكنه لم يكن يؤدي الصلوات الخمس يوميا. ويقول المخادي انه من الممكن وصف الجراح بأنه «مسلم معتدل».
ولا يستبعد سالم ان يكون ابن عمه زياد قد اصبح اكثر جدية خلال العامين الاخيرين عندما أوقف انتقال سنغوين الى بوخوم عام 1999 قطعت مبرر زيارته الاسبوعية الى غريفسفالد. ويقول سالم انه «يستبعد 100 في المائة» ان يكون ابن عمه زياد تحول الى شخص متزمت. ويضيف انهما وصلا الى ألمانيا بغرض تدبير حياة افضل وليس «رغبة في الموت من اجل فكرة مهوسة»، ويقول كذلك انهم «لا يعرفون ما إذا كان زياد الذي يعرفونه هو الشخص المعني الذي تشتبه فيه السلطات الاميركية»، مؤكدا انه اذا مات في الرحلة المذكورة فإنه لا بد ان يكون ضحية شأنه شأن بقية المسافرين.
* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»