في مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية عروس الساحل السوري يوجد أهم وأعرق جامع تاريخي في المنطقة الساحلية وهو «جامع السلطان إبراهيم»، وتأتي عراقته وأهميته من ناحيتين؛ الأولى بناؤه المعماري الجميل، فهو وكما يؤكد الباحثون أنه غاية في الروعة والفخامة ويجمع بين قوة البناء ورصانته وجمال تصميمه كما يتسم بطابع العمارة المملوكية مع تأثيرات شرقية والتي تشبه مساجد القاهرة، والناحية الثانية هي حكاية بناء هذا الجامع الذي حمل اسم سلطان أفغاني ترك الملك واستقر في جبلة زاهدا ودفن بها ليبنى المسجد بجانب قبره ولتتحول حياته وتاريخه إلى ما يشبه الأسطورة.
والجامع الذي خضع قبل سنوات لأعمال ترميم واسعة ما زال بكامل رونقه، حيث تتلألأ هذه الأيام أنوار مئذنته وقببه في شهر رمضان المبارك مستقبلة الصائمين في صلاة التراويح، والجامع وحسب كتابات فيه يعود بناؤه إلى عام 1095م ورمم بشكل كبير في عام 1350م يتميز باتساع بنائه المستطيل الشكل وبمئذنته البديعة وبعدد من القبب الرائعة، كما له أوقاف شاسعة تبلغ نحو 8500 هكتار، ويتألف من حرم للصلاة وصحن ويتم الدخول إلى حرمه عبر بوابتين، وهناك الصحن الذي يضم بركة مياه من الحجر الكلسي مربعة الشكل فرشت أرضيتها بأشكال هندسية من الألوان الحجرية تتوسطها نافورة مياه، ويحيط بالصحن أروقة وغرف حديثة، وللجامع مدخلان خارجيان أحدهما في الجهة الشمالية ملاصقا لجسم البناء، وامتدادا لعمارته القديمة يفضي إلى صحنه وتتشكل عتبته الخارجية قوسية الشكل من أحجار مدببة تعلوها مفصصات حجرية مقرنصة، وداخليا تعلو العتبة زخارف نباتية وهندسية. أما المدخل الثاني فقد كان في الجهة الجنوبية من صحن المسجد وتمت إزالته بعد التوسع بالملحقات التي أضيفت للمسجد عندما تمت أعمال الترميم فيه قبل سنوات - حسب الباحث الآثاري يوسف بدران - حيث تم ترميم قببه وأروقته وأسست به قاعات استقبال، ويتقدم مدخل حرم المسجد ثلاث قناطر قوسية مدببة، الوسطى منها واسعة ترتكز على عمودين أسطوانيين من الحجر الغرانيتي الأسود تعلوها قبة صغيرة، ويتألف مدخل المسجد من بوابة مستطيلة شاقولية الشكل عتبته من حجر الغرانيت الماوردي يعلوها زكزاك حجري. أما الحرم فيتألف سقفه من الجهة الجنوبية من أقواس حجرية متقاطعة على قاعدة مستطيلة، بينما جهته الشمالية تتألف من أربع قباب، وهناك المئذنة الأسطوانية الشكل التي تقع بين مدخلي حرم المسجد، وهي سامقة الارتفاع تزين شرفة المؤذن مقرنصات حجرية متدلية. أما المنبر فهو يتوسط حرم المسجد ويتألف من بوابة رخامية مزينة بورقتي خشب من الخيط الهندسي العربي الملون تكسو جانبيه قطع رخامية تعلو عتبته مقرنصات رخامية مصطفة ويعلو كرسي الخطيب قبة صغيرة رخامية ترتكز على أربعة أعمدة رخامية دائرية وتيجان مقرنصة. أما المحراب فيتشكل من تجويف محفور بالجدار من أحجار رملية ومزين بقوس يرتكز على تاجين من المقرنص، وفيما يتعلق بواجهات المسجد الخارجية فهي مبنية بالحجر الرملي ولها أقواس حدودية نافرة وبأشكال هندسية ونباتية مؤطرة بأفاريز منحوتة تحيط بنوافذ الجامع التحتية التي يبلغ عددها 30 نافذة، أما النوافذ العلوية الخاصة بالتهوية والإنارة فيبلغ عددها 37 نافذة.
في الجهة الشرقية الجنوبية من الجامع يوجد قبر السلطان إبراهيم، ذلك الرجل الأسطوري الذي يقدم حكاية نادرة في التاريخ، أعطى أهمية استثنائية لهذا المسجد، كما هي أهميته المعمارية، والسلطان إبراهيم الذي تحدث عنه عدد كبير من المؤرخين القدامى وانتشر صيته لدرجة أن نظمت عنه ملاحم شعرية وقصائد وكتبت روايات مختلفة عنه باللغات العربية والتركية والهندية والإندونيسية، كما كتب المستشرقون عنه كثيرا، لقد ولد إبراهيم في مدينة بلخ في أفغان مطلع القرن الثامن الميلادي، وكان والده عربي الأصل ينتمي إلى قبيلة بني عجل وهي إحدى القبائل العربية التي استوطنت في تلك البلاد بعد الفتح الإسلامي لها، وقد تزوج والده أدهم من بنت سلطان بلخ فولد إبراهيم من هذا الزواج ويبدو أن والده توفي وهو لا يزال صغيرا فأصبح إبراهيم سلطانا على بلخ وهو في أول شبابه بعد وفاة جده السلطان والد أمه.
ويذكر المؤرخون أن إبراهيم ما إن اعتلى عرش البلاد حتى صار يسمع نداءات غريبة تحثه على ترك الملك ليعيش حياة تقشف وعبادة يكرسها لله تعالى. ويروي المؤرخ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه «حلية الأولية» أن إبراهيم ذهب يوما على فرسه إلى العين، وبينما كان في وسط البرية سمع صوتا يقول له: «ليس لذا خلقت ولا بذا أمرت»، فتوقف وصار ينظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا فلكز فرسه وتابع سيره فإذا بالصوت الغريب يصيح «يا إبراهيم ليس لذا خلقت ولا بذا أمرت»، فقال إبراهيم في نفسه: «هذا نداء رب العالمين»، وقد التقى بعد ذلك براع يرعى خرافه فاستبدل لباسه الملكي بثياب ذلك الراعي وبدأ يتيه من مكان إلى مكان، تاركا بلخ في قلب آسيا وترك معها سلطته وملكه وصار يتجول في العالم وله قول شهير وهو: «إن الله تعالى بالمسافر لرحيم، وإن الله لينظر إلى المسافر كل يوم نظرات، وأقرب ما يكون المسافر من ربه إذا فارق أهله». وقد توجه إبراهيم بادئ الأمر إلى نيسابور في شمال فارس ومن ثم تركها ليتجول زاهدا، حيث زار بلدانا كثيرة ومنها البصرة والكوفة وبيت المقدس وغزة في فلسطين، كما زار مكة المكرمة حاجا عدة مرات حتى استقر به المقام في سوريا وأعجبته مدينة جبلة على شاطئ المتوسط شمال غربي دمشق ومكث بها 24 عاما حتى وافته المنية ودفن بها سنة 777م. ويذكر المؤرخون أن والدته التي لحقت به باحثة عنه محاولة إعادته إلى بلخ وإلى ملكه اضطرت بعد رفضه كل محاولاتها إلى البقاء بجانبه، حيث شهدت وفاته واشترت أملاكا كثيرة بجانب قبره جعلتها وقفا لتخليد اسم ابنها وغادرت فيما بعد إلى مدينة اللاذقية المجاورة، حيث توفيت هناك ودفنت في البداية في أحد أحياء اللاذقية الذي ما زال يعرف حتى الآن باسم حي أم إبراهيم يبعد شرقا عن ساحة الشيخ الضاهر التي تتوسط المدينة نحو 500 متر، وهناك عين ماء تأخذ نفس الاسم وقد نقل رفاتها فيما بعد إلى جانب قبر ولدها في جبلة.