الطفلة ياسمين السمرة: لوحاتي سلاح أواجه به مرضي العضال

أقامت ثلاثة معارض وتلقب بـ«أصغر فنانة كاريكاتير في مصر»

TT

مبكرا استيقظت ياسمين الملقبة بـ«أصغر فنانة كاريكاتير في مصر»، جسدها النحيل يئن من شدة الألم، باستحياء وبصوت هامس مجروح تتردد في أن تنادي على أمها لتداوي لها تقرحات الجلد الشديدة، لا تريد أن تقض مضجعها وتزعجها، فكفاها ما تلاقيه من إرهاق تشعر ياسمين الطفلة المرهفة الحس بأنها تسببه لها، لكن لا يهم، ستنتظرها حتى تستيقظ. أمام عينيها تتراءى أشكال فنية، تلح على تفكيرها، وفي لحظة تتناسى آلامها وتمسك بالورق والأقلام، ترسم أشكالا وأشخاصا تراهم هي بطريقتها الخاصة، تمسك بالقلم أو ربما يمسك بها القلم، فهي ترسم بطريقتها الخاصة القريبة من أنفاسها، تندمج ويأخذها عالم الألوان الساحر، لكن بعد فترة ليست بالطويلة تشعر بالتعب وبأن جسمها بدأ يخذلها، تدخل الأم بلهفة مكتومة، فقد شعرت بحالة ابنتها، تلقي عليها التحية بحب مثل كل صباح، وكالعادة تلف جسد ياسمين النحيل بلفائف «الشاش» وتداوي تقرحات جلدها، والغريب أن ياسمين أيضا تداوي آلام أمها.

ياسمين طفلة لم يتجاوز عمرها 13 عاما، مصابة بمرض الفقاعة الجلدي النادر الوراثي، الذي ظهر عليها منذ كان عمرها شهورا، وهذا المرض يجعل الجسد من الخارج، والداخل أيضا، كأن به حروقا من الدرجة الثانية، ويعاني منه الإنسان كثيرا، ويطلق عليه البعض مرض «سيدنا أيوب»، فهو قد يكون المرض الذي أصابه.

بعد مداواة الآلام، تجهز الأم الطعام المخصوص المضروب في الخلاط، فحساسية الجسم الخارجية تكون في الداخل أيضا، مما يجعل الطعام العادي يجرح الأمعاء ويسبب إمساكا خطيرا بالنسبة لهم.

لفت معرضها الثالث «من وحي الخيال» الذي افتتحه، مؤخرا، فنان الكاريكاتير الشهير، مصطفى حسين، بساقية الصاوي، أنظار المشاهدين وأصابهم بالدهشة، عبر نحو 50 لوحة ضمها المعرض، معظمها بورتريهات لنساء وأطفال، تستعيد ملامحهم من الذاكرة وترسمهم بشكل عفوي، في إطار رؤية فنية، تتقاطع فيها خطوط فن الكاريكاتير بعالم التصوير. وعلى نحو خاص برز في اللوحات وعي ياسمين بسيكلوجية الألوان، وأبعادها الدرامية، فهي مشرقة وشقية في اللوحات المستوحاة من عالم البنات والأطفال، وفي اللوحات التي تعبر فيها عن عالم النساء والجدات تبدو الألوان قاتمة إلى حد الوقار والزهد.

تقول ياسمين: «أحب لوحاتي وأفرح بالألوان، وأحب رسم الوجوه، لأنها معبرة وتبدو لي أحيانا كلعبة أقنعة، في فيلم من أفلام الكارتون التي أعشقها، كما أن لي هوايات أخرى، فأنا أحب الغناء والرقص والقراءة، ويجذبني عالم الإنترنت الافتراضي وألعاب الكومبيوتر».

وعلى الرغم من ابتسامة شاحبة فوق شفتيها، فإن الأم، هناء السادات، لا تخفي فرحها بابنتها الفنانة الصغيرة، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «أفرح بلوحاتها، لكن هذا المرض يسبب ضعفا وأنيميا، مما يجعل المجهود على القلب كبيرا، لذا يجب أن يكون الغذاء متكاملا وليس به شيء صلب، ويجب ضرب الطعام جيدا في الخلاط».

وتكمل الأم التي بحثت كثيرا في حالة ابنتها حتى صارت خبيرة في هذا المرض: «الطعام جزء مهم بالنسبة للمصابين بهذا المرض، ويغفل الكثيرون نبات الملوخية فهي كالسحر بالنسبة لهم، تمنع الإمساك وتغذي». وتوضح أن هذا المرض يحتاج إلى مراعاة عضوية وجلدية ونفسية.

بعد ذلك تمسك ياسمين لوحتها التي بدأتها، هي تريد أن تكملها وتنتهي منها في أسرع وقت، هذه الطفلة التي تشع طيبة ونبلا، لا تنسى الآخرين من حولها، فهي تقيم معارضها الفنية وتتبرع بجزء من ثمن اللوحات لأطفال قصر العيني الفقراء المصابين بالمرض نفسه، تقدم لهم بعض الهدايا فقد تفرح قلوبهم العليلة. «لابد من وجود أمل ما دام هناك غد، المهم كيف نعيش ونساعد غيرنا، وعندما نرحل يتذكرنا بالخير الآخرون»، هذا ما تؤمن به ياسمين.

لا يعرف الكثيرون طبيعة المرض، فقد يموت الطفل والأم لا تعرف السبب في موته، قد تكون الأنيميا أو أي سبب آخر يسببه هذا المرض، لذا تشرع الأم، هناء السادات، في عمل جمعية لتوعية الأمهات بهذا المرض، فقد يسافر الطفل طويلا ليغير على جلده، مما يسبب له معاناة وإرهاقا شديدين، وتستطيع الأم ببعض الوعي أن تغير له بنفسها وتجنبه المعاناة، أيضا من أهداف الجمعية رعاية المرضى من الأقاليم، القاصدين مستشفى قصر العيني بالقاهرة، التي تأخذ عددا معينا كل يوم، ويصبح الآخرون ممن لم يأت عليه الدور لا مكان لهم، فيسافرون مرة أخرى ويعودون في الغد، فتأتي الجمعية لاستضافة هؤلاء ليتجنب الأطفال المرضى الإرهاق، ولا بد من وجود طبيب جلدية على الأقل مقيم في المكان، كما أن هذا المرض مكلف، وأغلبية المرضى به من الفقراء، فالأدوية والشاش فقط بنحو ألف جنيه شهريا، ولا يستطيع الأهل توفير ذلك، هذا عدا الطعام المخصوص والملابس المناسبة للطفل التي تلائم بشرته الهشة. تضيف هناء السادات، حفيدة الشيخ السادات، شيخ الأزهر الأسبق: «هؤلاء الأطفال هبة من عند الله، هم أشخاص مختلفون وأحسن من غيرهم، عندهم رسالة ولا يعي البعض أهميتهم في الحياة. لكن هل لهذا المرض علاج؟»، تتألم عينا الأم وتغرق في الدموع، وتجيب: «من يدري، فربما العلم بعصاه السحرية يوما يضح حدا لمعاناة هذا المرض». ياسمين الموهوبة والمتفوقة والمحبوبة من المعلمين في مدرستها الألمانية، لم تستطع أن تذهب العام الماضي للمدرسة، فقد شعرت بتعب منعها من الذهاب، لكن ما يخفف عنها قليلا أن تأخذ أوراقها والأقلام وتشرع في الرسم، وأحيانا تمسك بالقلم ولا تستطيع وضع خط على الورقة فتغلق الأوراق.. وكما تقول: «بعض اللوحات تكون جميلة لكنني لا أستطيع إكمالها»، فحالتها المزاجية هي المتحكمة في اللوحات وفي مواضيعها، ويتفاوت ذلك بين الحزن والفرح.. وعلى حد قولها: «الرسم موهبة من عند الله، وعندما أرسم يتحول العالم إلى مرايا للروح، الرسم أصبح لدي نوعا من الصداقة الحميمة، وسلاحا أواجه به مرضي الصعب». ياسمين في العادة ترسم اللوحة في يومين أو ثلاثة. وتستكمل خطوط ألوانها بكتابة الزجل، وعلى الرغم من محنة المرض الصعب، فإنها تؤمن بأن عندها الكثير الذي تقدمه للآخرين.