أزمة التعليم في مصر.. من ماء طه حسين إلى هواء ثورة 25 يناير

شباب ميدان التحرير كان أغلبهم ممن فقدوا الأمل في المدارس الحكومية

TT

وسط مطالب واحتجاجات فئوية، طالت المعلمين بالمدارس وأساتذة الجامعات يبدأ اليوم العام الدراسي الجديد في مصر، مثقلا بملابسات واقع سياسي لم يستقر بعد، وواقع اجتماعي ارتفع فيه سقف الضغوط الاقتصادية على كاهل الأسرة المصرية، في أعقاب المتغيرات التي أحدثتها ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في المجتمع.

في ظل هذا المشهد المربك يستعيد المصريون مقولة «التعليم كالماء والهواء»، والتي أطلقها عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر»، وتحولت إبان ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إلى واقع فعلي، حيث حصل ملايين المصريين على التعليم بالمجان.

لكن خلال العقود الأخيرة، خاصة في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، تبخرت مقولة عميد الأدب العربي، وأصبحت مجرد ذكرى في كتاب. فما أن تدخل مدرسة حكومية في مصر قبل ثورة 25 يناير حتى تجد صورة مبارك بابتسامته المعروفة تعلو مكتب ناظر المدرسة، دلالة على الانتماء المفترض، وتتناسل هذه الصورة بشكل مباغت، إذا حظيت هذه المدرسة بزيارة رسمية لأي من قيادات التربية والتعليم وربما جولة من المحافظ، خاصة في الفصول والأفنية التي سيدخلها الزوار لاحقا للدلالة على أن حب مصر هو من حب الرئيس.

هذه الصورة تهاوت بعد أن قامت الثورة، وبدا أن سقوطها لم يكن إسقاطا لرمز الدولة بقدر ما كان إسقاطا لخوف وخضوع وولاء هش أجبر عليه التلاميذ الصغار مع مصافحة عيونهم ملامح صورة مكررة كل صباح.

ومع بدء عام دراسي جديد فيما بعد مبارك يبرز تساؤل ملح: أين ذهب هذا الولاء للحاكم وللنظام والذي كرست له بقوة المناهج الحكومية الرسمية بين صفحات كتب التاريخ؟ بل يبرز السؤال الأهم: هل مهدت منظومة التعليم الحكومي المتردية من دون أن تدري، وبنتاجها من أجيال نصف متعلمة ربع متفائلة بالمستقبل للقيام بثورة 25 يناير، وأن الحكومة لم تكن تتوقع ذلك؟.. الدكتورة أماني مسعود، أستاذ علم الاجتماع السياسي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة تتساءل عن مفهوم المدرسة في حد ذاته قائلة لـ«الشرق الأوسط»: نحن لم نعد نملك مدارس بالمعنى المفهوم للمدرسة، فالمدرسة الحكومية التي نعرفها منذ أزمنة لا يمكن أن يطلق عليها اسم (مدرسة)، فأبوابها مفتوحة طوال اليوم، والمدرسون خارجها ركضا وراء الدروس الخصوصية والطلاب يتسكعون على النواصي، وإذا تواجدوا في الفصل فيكدسون بالأربعين والخمسين طالبا، فماذا سيفهمون وماذا سيتعلمون؟ إذن أين هي المدرسة وأين هو المنهج الدراسي الذي يدرس؟

وتضيف قائلة: إن شباب ميدان التحرير كان سواده الأعظم نتاج مدارس حكومية، وهذا ليس بسبب أنهم لم يتلقوا تعليما آدميا فقط، بل لأنهم لم ينشأوا كذلك في بيئة تربوية سليمة ككل، وهو ما ألقى بظلاله بقوة من خلال سهولة الدفع بهم للميدان تحت شعار (العدالة الاجتماعية)، وكم كان سهلا أن تشحذ همم يائسة لم تر في مستقبلها أملا ولا بارقة مشرقة، لهذا كان ميدان التحرير هو أبسط ما يمكنهم من خلاله قول كلمة (كفى).

ورغم أن تقريرا للتنمية البشرية صدر عام 2003 أشار إلى أن المناهج التعليمية في المدارس الحكومية في الدول العربية تعلم الطلبة (الخضوع، الطاعة، الخوف)، ومن ثم، أشار بحث بريطاني حديث نشرته صحيفة «الغارديان» إلى أن تردي التعليم الحكومي في مصر على مدار عقود متواصلة كان هو وقود الثورة الحقيقي من خلال تنشئة أجيال يمكن اعتبارها كانت أرضا خصبة للتمرد والمعارضة، بعد أن انشغلت عنهم حكومات الخصخصة في النظام السابق. ومع فقر أجور المعلمين وصل بهم الحال إلى تعاطي الدروس الخصوصية حتى ينجحوا فقط في الامتحانات، وهذا الفشل التعليمي حول المدارس الحكومية إلى مرتع للسخط والاستياء.

تعترف د. مسعود قائلة: مما لاشك فيه أن التعليم المصري منهار تماما، ولقد تدهورت القيمة الجمعية للمجتمع المصري بالتتابع، وتفتت منذ سنوات طويلة، وتدهور حال التعليم هو إحدى المنظومات الأساسية التي انهارت بقوة خلال عقود، وذلك بعد أن انقسم المجتمع المصري ما بين من يملك الكثير ومن لا يملك شيئا، والنتيجة اليوم أن معظم الأجيال من سن 14 إلى 25 ممن لم يتلقوا تعليما خاصا أصبحوا جهلة وسطحيين ولا يحترمون أحدا، وليس لديهم أي ولاء سواء كان لأسرتهم أو لبلدهم.

تدلل مسعود على ذلك قائلة: نحن على سبيل المثال لم نكمل عاما دراسيا واحدا منذ 3 سنوات (عام انتشار إنفلونزا الطيور 2009 – عام انتشار إنفلونزا الخنازير 2010 – عام الثورة 2011).. وتضيف: «يكفينا خجلا أن نعرف أن تحية العلم وأداء النشيد الوطني أصبح من الأشياء المنقرضة في المدارس الحكومية حتى وإن كانت صور رئيس الجمهورية معلقة على كل حوائط المدرسة.. فمضمون الوطنية لدى التلاميذ كان فارغا.. لكن، هل هذا يعني أن تلاميذ المدارس الخاصة ذات التكلفة الباهظة يبدون ولاء أكبر لعهد الرئيس السابق مبارك لأنهم تلقوا قدرا جيدا من التعليم والتربية، في الحقيقة لا يبدو الأمر كذلك». تواصل مسعود قائلة: «لقد خلق النظام السابق أجيالا هشة من الداخل بلا معنى حقيقي للانتماء أو الوطنية وأفرغ في عقولها مجرد الحفظ والتلقين ونيل مجرد ورقة يطلق عليها (شهادة تعليمية) لا يعرف إن كان سيعمل بها يوما أم لا. وإذا كان أبناء المدارس غير الحكومية أفضل حالا، فسيكون ذلك على مستوى التنشئة التربوية، لكن ليس على مستوى الولاء للوطن والانتماء له فهم لم يدرسوا يوما ذلك».