عودة بوتين تدفع بعض الروس للتفكير في الهجرة

خبراء يتوقعون «سادس موجة رحيل» في تاريخ البلاد.. واستنزافا للعقول والأموال

روسية تحمل صورة لستالين خلال مظاهرة احتجاجية على عودة بوتين للرئاسة (إ.ب.أ)
TT

«حان وقت الرحيل» (Time to shove off). هذا هو اسم لموقع إلكتروني خاص بالأشخاص الذين سئموا الحياة في روسيا، وباتت عبارة شائعة بين هؤلاء الذين قضّت مضاجعهم خطط رئيس الوزراء فلاديمير بوتين التي أعلن عنها مؤخرا والخاصة بعزمه البقاء في السلطة كرئيس ربما لفترتين إضافيتين.

وكتب محرر في إحدى المجلات يدعى يفغيني لوباتشيفا في رسالة نشرها على موقع إلكتروني آخر: «منذ عام مضى أخبرت أصدقائي الذين كانوا يغادرون البلاد أنني لن أفعل ذلك مطلقا بأية حال من الأحوال. لكني لن أعيش سوى مرة واحدة. بعد اثني عشر عاما سيكون عمري 43 سنة!».

وقد استحوذ بوتين بالفعل على مقاليد السلطة منذ 12 عاما - أول ثماني سنوات منها كرئيس، والسنوات الأربع الماضية كرئيس وزراء يتمتع بسلطة تنفيذية فعلية. والآن أدى احتمال حدوث ما يطلق عليه الكثير من الروس بالفعل مسمى «فترة ركود» إلى انطلاق موجة جديدة من أشكال عدم الولاء لدولة يقوض فيها الفساد ونظام الإدارة التنازلي المفتقر إلى المرونة خيارات التغيير والتطور الشخصي.

وقال ستيبان تشيغوف، 29 عاما، الذي يقوم بتسويق ألعاب إدارة مثل «مونوبولي» ويستعد للهجرة إلى كندا مع زوجته الصيف المقبل: «أود العيش في دولة لا أكون فيها مضطرا إلى كسر القواعد من أجل العيش في راحة». وأضاف: «أنا فقط لا أرغب في الدخول في معركة مع النظام. أود أن يحقق لي النظام الشعور بالراحة. أرغب في أن أحيا حياة سلسة. وليس من المحتمل في روسيا خلال الأعوام العشرين المقبلة أن يتمكن الفرد من اتباع القوانين والقواعد وأن ينعم بحياة مريحة في الوقت ذاته».

وقال ليف دي غودكوف مدير وكالة استطلاعات الرأي «ليفادا سنتر»، إن نحو 50 ألف شخص يغادرون روسيا كل عام، وإن من المحتمل أن يزداد الرقم بنحو 10 آلاف أو 15 ألف شخص في المستقبل. وواصل غودكوف قائلا: «ستكون هناك حالة تشاؤمية محبطة في المجتمع. الموقف غير واضح. القلق يتزايد وهناك شعور بالركود والانحطاط».

ويشير بعض المحللين إلى هذه الموجة على أنها سادس موجة من موجات الهجرة الروسية. يذكر أن الموجة الأولى بدأت في عام 1917 في أعقاب الثورة البلشفية، وتعتبر أحدث موجة هجرة هي تلك التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

وفي سياق تعريفه لموجة الهجرة السادسة، قال ديمتري أوريشكين، العالم السياسي في مقال يتم الاستشهاد به كثيرا هذا العام: «إنهم بالأساس هؤلاء الذين آمنوا في تسعينات القرن الماضي، بدافع من حماس الشباب والتفاؤل الفطري، أن الحرية ستتحقق في نهاية المطاف وأن روسيا ستصبح دولة طبيعية. وقد أفاقهم عقد بوتين من سكرتهم إلى أرض الواقع».

بعد عشرين عاما من انهيار الاتحاد السوفياتي شعر كثير من أفراد الطبقة المتوسطة المتعلمة، الذين كان يحدوهم الأمل في أن يشكلوا جزءا من مجتمع عصري ناضج، أنهم يرجعون إلى الوراء.

«شبح الماضي يحدق بنا»، قال أندريه زولوتوف جيه آر، نائب مدير الخدمة الدولية بوكالة أنباء «ار اي ايه نوفوستي»، وأضاف: «ثمة موطن خوف: ماذا لو أغلقوا الحدود؟ هذا هو أحد المخاوف الأساسية». وفي واقع الأمر قد يكون تاريخ الهجرة في روسيا هو الذي أدى إلى ظهور رد فعل عاطفي متأصل تجاه تلك المحنة ممثل في شعار «حان وقت الرحيل».

غالبية من يقولون هذا لا يعنونه بالفعل، هذا ما قاله إليا كليشين، 24 عاما، وهو مدون وصحافي، واصفا تعليقاتهم بأنها «حالة اكتئاب زادت بفعل الانهزامية وتتجه إلى حالة من اللامعقولية». وفي رسالة على مدونته حملت عنوان «لن أرحل»، كتب: «كيف يمكنني أن أسلم بلدي لغيلان مصابين بالجنون وأكتفي بمراقبتها من مسافة بعيدة آمنة وهي تنهار؟».

إن فكرة الرحيل في حد ذاتها مدمرة لأنها تحرم روسيا من أكفأ مواطنيها، على حد قول خبراء. وأشار أوريشكين إلى أن هؤلاء الذين يغادرون روسيا تزداد فرص تمتعهم بمستوى تعليمي أفضل بمقدار ثلاثة أضعاف عن هؤلاء الذين يمكثون بها.

وقد شكا الرئيس ديمتري ميدفيديف، الذي يتوقع أن يتبادل الأدوار مع بوتين كرئيس للوزراء بعد إجراء انتخابات في مارس (آذار) المقبل، مرارا وتكرارا من حدوث نزيف عقول، وقال من دون ذكر تفاصيل إن الحكومة يجب أن توفر «ظروفا مُرضية» تشجع العلماء وغيرهم من الكفاءات على البقاء وعدم الهجرة. وإضافة إلى ذلك، قال أوريشكين: «المال هو الذي يغادر البلاد»، حيث يحتاط منظمو المشروعات الرائدة ضد المخاطر المستقبلية ويحاولون الاستفادة من شفافية العمليات التجارية في الغرب.

وفي حقيقة الأمر، قد تكون الموجة السادسة، مثلما يطلق عليها، أصعب في التقدير من موجات الهجرة السابقة لأن حدود روسيا المفتوحة الآن تسمح للناس بالمغادرة من دون هجرة فعلية، أي امتلاك منازل أو قضاء فترات من السنة خارج البلاد وإرسال أطفالهم إلى مدارس بالخارج مع خيار العودة إلى أرض الوطن أو البقاء بالخارج.

وفي عمليات الرحيل الصادمة إبان حكم الاتحاد السوفياتي، عادة ما كانت كلمة الوداع تعني عدم نية العودة مجددا إلى الوطن.

«إذا تحسنت الأوضاع بشكل حقيقي ملموس، فسوف نعطي أنفسنا الفرصة للعودة مجددا إلى روسيا»، هكذا قال تشيغوف، الذي يخطط لدراسة الكومبيوتر وإدارة الأعمال في كندا. وعقب قائلا: «لكنني لا أعتقد أن ذلك سيحدث».

لقد ازدادت الأماكن التي ينتشر فيها الروس، ليس فقط في مدن عالمية مثل لندن ونيويورك، وإنما في أماكن أخرى مثل جنوب فرنسا ومونتينيغرو وقبرص وتايلاند، التي عادة ما تميزها علامات في الشوارع ومحطات إذاعية تبث باللغة الروسية.

وفي الوقت نفسه، ليس كل من يمكثون في روسيا مقيمين فيها بشكل نابع من إخلاص حقيقي، فكثير منهم يدخلون في إطار مفهوم يطلق عليه الهجرة الداخلية. وقال زولوتوف: «هناك شعور بعدم التوافق مع النظام، شعور بالاغتراب، بأنه ليس ثمة أي شيء معتمد عليك وبأنه لا أهمية لك، وهذا يقود إلى ما يطلق عليه الهجرة الداخلية. فأنت تتوقف عن مشاهدة التلفزيون وتنغمس في حياتك الشخصية وتنفصل عن العالم المحيط بك».

البعض ينتقل من تلك الخطوة إلى خطوة أبعد، وفيها - بحسب وصف صحيفة روسية - يتواصل المواطنون الروس مع دول أو ثقافات أخرى، كاليابانية والإنجليزية والاسكوتلندية والكاتالونية، ويتعرفون على تاريخ ولغة هذه البلاد التي يتخيلونها وطنا جديدا لهم وطرق التفكير والسلوك السائدة فيها.

وتعتبر فاليريا كورتشاغينا، 40 عاما، نموذجا لمن هاجروا من روسيا بالفعل، على الرغم من قولها إنها لم تكن تعتزم ذلك مطلقا، حتى مع تصاعد درجة إحباطها وخيبة أملها على مدار العقد الماضي. وكتبت في رسالة بريد إلكتروني أرسلتها من مقر سكنها الجديد في بروكسل: «قد يستمر هذا الوضع للأبد، لكن في يوم 6 يوليو (تموز) عام 2009، أنجبت ابنتي التوأم، وهذا غيّر الوضع برمته». وأضافت: «عندما أرى روسيا تسير تجاه حالة من الظلم وعدم الأمان الشديدين، والأهم فقدان الأمل في إمكانية تحسن الأوضاع في القريب العاجل، تتأكد رغبتي في أن لا تكون لابنتي أية صلة به».

وقالت إنها ممتنة لكونها جزءا من طبقة متوسطة لديها خيار الرحيل بدلا من أن يكون لزاما عليها تحمل الشدائد والمحن هنا. وتابعت: «لا أستطيع أن أتنبأ بالفترة التي سنبقى خلالها مهاجرين. بالطبع سنزور روسيا، فوالداي وجداي هناك. أما عما إذا كنت سأعود للعيش هناك في وقت قريب، فقد تكون إجابتي بالنفي».

* ساهمت أولغا سلوبودتشيكوفا في إعداد هذا التقرير.

* خدمة «نيويورك تايمز».