الانطباعية التي لم تفقد رونقها منذ القرن التاسع عشر

في معرض سيليستان ميساجيو بغرونوبل

تقاطع التايمز في نيويورك
TT

تبدو الألوان رحلة. هكذا مع سيليستان ميساجيو نغرق في دفء حياة البندقية كما في سحر حياة البربر، وأيضا في الانعكاسات الرومنطيقية لنهر السين الجميل حتى الوصول إلى نيويورك، المدينة الحديدية التي تحولها ألوانه إلى عالم من التمازج بين الحداثة الظاهرة والانطباعية التي لا يصعب على توصيفها مكان، كل هذا حين يقف فنان كبير بريشته التي تحلم.

حين كتب ميشال دي ديكر، المؤرخ الفرنسي عضو الأكاديمية الفرنسية، هذا الكلام عن سيليستان ميساجيو قبل عدة سنوات، كان هذا الفنان، صاحب الاسم ذي الرنين الإيطالي والمولود في منطقة النورماندي في بداية الخمسينات، كان قد وضع من خلال التيمات التي يعمل عليها من داخل الانطباعية، خطوطا جديدة، وعلامات خاصة به هو.

قد يكون الأسلوب الذي يتبعه سيليستان ميساجيو غير بعيد، عن الكثير من الأعمال الفنية المنتمية إلى الانطباعية، والتي تتراكم في العاصمة الفرنسية، وفي غيرها من المدن الكبرى على الأرصفة في غالب الأحيان. لكن حتما هناك اللمسة الخاصة بكل فنان دون الآخر. وفي الأعمال التي يعرضها غاليري «فانت دو سيم»، تظهر إلى جانب الحرفة التي يتمتع بها هذا الرجل. أيضا، القدرات الفنية والتقنيات العالية التي لا تخلو من إحساس بالغ لحظة ارتكاب اللوحة. الارتكاب هنا ليس جرما يعاقب عليه القانون، بل ارتكاب فعل أو عمل فني يترك ندوبه في كل من يراه، تماما كما لو أنه جريمة تخلف آثارها.

وهذا على الأصح المميز في أعمال هذا الفنان. فالتعاطي مع اللوحة وكذلك مع الألوان إلى الأمكنة التي سعى ميساجيو إلى رسمها (البندقية، النورماندي، باريس، نيويورك) هي أماكن رسمت ملايين المرات، وبالتالي فإن إعادة رسمها، حتى لو كان ذلك من قبل فنان محترف ومعروف، سيكون أمرا في غاية الصعوبة والحساسية. لذلك، ننتبه في أعمال ميساجيو لا إلى الشكل العام فقط بل أيضا إلى الألوان التي استعملها، وضربة الفرشاة، وكذلك ضربة سكين الرسم التي يستعملها ميساجيو كثيرا، حتى أن بعض لوحاته تختفي فيها أو تكاد ضربات الفرشاة.

يجمع هذا الفنان الفرنسي الإيطالي الأصل ميزة لا يمكن جمعها في شخص واحد. هنا تلعب هجرة الآباء والولادة في خارج المكان على ما يقول إدوارد سعيد دورا كبيرا في الحساسية التي يتعاطى معها الولد المولود خارج مكانه الثقافي. ففي حين يمكنه تقبل الثقافة الفرنسية – في حالة ميساجيو – بحكم الإقامة والتعلم وتأثيرات المجتمع المحيط، تبقى الثقافة الأصلية التي يمارسها الوالدان ثقافة أصيلة في انتقالها إلى إحساس الأبناء بعمق ثقافتهم ومكانهم الذي ينتمون له بالحس، لذلك فإن الإشراق الذي يميز لوحات هذا الفنان الإيطالي – الفرنسي عن البندقية، وغير مكان في إيطاليا، يتلخص في إحساسه الداخلي بمكونات المشهد الطبيعي والفني الإيطالي. وهذا لا يمكن اكتسابه سوى بالتربية والانتماء للثقافة نفسها، فكيف والحال هذه، نحن أمام فنان ينتمي لثقافتين جارتين، نعم لكنهما مختلفتان اختلافات جذرية ولا تتمتعان بنفس التاريخ.

غاية القول: إن لوحات ميساجيو عن البندقية فيها سحر المدينة التي لا يوازي سحرها مكانا آخر، كما أن ضرباته شفيفة كالمياه التي تغمرها إلى جانب الألوان والأصباغ التي تحيلنا في اللوحة إلى الأصل، أي المدينة الجميلة.

تزيد لوحات ميساجيو من سحر الأماكن، وعلى غرار ما رسمه مونيه من لوحات عن منطقة النورماندي الفرنسية، فإن ميساجيو كذلك، وهو ابن المنطقة، قدم لوحات تصويرية جميلة، لكنها تفترق مع مونيه لناحية الأسلوب والزوايا. فقد كان مونيه، وهو أعظم أساتذة الانطباعية على مر القرنين التاسع عشر والعشرين يسعى من خلال رسوماته إلى إظهار الجمال وانتزاعه من قلب الطبيعة الداكنة للنورماندي وألوانها الطبيعية التي تخفي أسرارا أكثر مما تظهر، في حين تجسدها أعمال ميساجيو على أنها خالية من الأسرار ومكشوفة وجميلة، الأمر الذي قد لا يوافق الكثيرين ممن يرون أن ميزة هذه المنطقة تكمن في أسرارها ومناخها المعتم.

التجربة اللافتة في أعمال ميساجيو تكمن في تناوله من خلال المدرسة الانطباعية التي يعمل ضمنها، مدينة نيويورك، ليس الأنهار أو الحدائق أو غياب الشمس على تمثال الحرية. وليس كذلك بعض المناظر الطبيعية التي تمتاز بها المدينة من الداخل أو في ريفها ومحيطها، بل قام برسم النمط الحداثوي للمدينة بنفس انطباعي. طبعا ميساجيو ليس الوحيد الذي قام بذلك ثمة فنانون من كل العالم خاضوا تجربة الرسم الانطباعي، وإدخاله في الحداثة من اليابان وحتى نيويورك، لكنه على الأرجح الفرنسي الوحيد الذي خاض هذه التجربة، أما الحكم على الأعمال، فهو يحتاج إلى المقارنة مع غيرها من تجاربه السابقة. ويمكن الجزم بسهولة، أو عشاق الرسم الانطباعي ميالون للتجربة النورماندية والباريسية والإيطالية، ذلك أن هذه الأماكن في المفهوم الجمعي تعني الانطباعية أكثر من نيويورك التي يكللها الحديد وتندر فيها الرومانسية.