يصادف اليوم 28 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1971 الذكرى الأربعين لحريق الأوبرا المصرية الخديوية، الذي شاهده آلاف المصريين عندما التهمت وقتها النيران المبنى ذا الطراز المعماري المميز بوسط العاصمة، بما فيه من ملابس وديكورات وإكسسوارات العروض التي تمت على مسرحه، والكثير من التحف النادرة.
ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لا يزال سبب الحريق مجهولا، رغم إرجاعه إلى الماس الكهربائي. ورغم تغير الأحوال وانتقال الأوبرا إلى مكان آخر جديد، فإن ميدان الأوبرا لا يزال يرتبط بمكانها القديم مع أنه يظهر للعيان طيلة 40 عاما دون مبنى الأوبرا بأبهته وعظمته وتاريخه الفني، حيث انتهى تماما بتهاوي أجزائه واحدا بعد الآخر إلى الأبد، وليحل مكانه مرأب للسيارات متعدد الطوابق.
ارتبطت قصة إنشاء الأوبرا الخديوية القديمة بافتتاح قناة السويس في عهد الخديو إسماعيل، الذي كان شغوفا بالفنون، ولذلك سميت بالأوبرا الخديوية، وقد تم اختيار مكانها بحيث تتوسط حيين من أهم أحياء القاهرة في ذلك الحين، هما حي الأزبكية وحي الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليا)، وقد سمي الميدان الواقع أمامها باسم ميدان التياترو نسبة إلى دار الأوبرا، ثم سمي باسم ميدان إبراهيم باشا، وفي سبتمبر (أيلول) سنة 1954 سمي باسم ميدان الأوبرا.
ولحب الخديو إسماعيل للفن الرفيع وشغفة به أراد أن تكون دار الأوبرا الخديوية تحفة معمارية لا تقل عن مثيلاتها في العالم، فكلف المهندسين الإيطاليين، افوسكاني وروسي، بوضع تصميم لها تراعى فيه الدقة الفنية والروعة المعمارية، فعملا على توفير الرؤية الجيدة من مختلف زوايا «البنورات» ووضوح الصوت، واهتم الخديو إسماعيل بالزخارف فاستعان بعدد كبير من الرسامين والمصورين لتزيين الأوبرا وتجميلها، فزخرفت المباني والبنورات على غرار رسوم عصر «الروكوكو» و«الباروك» الفاخرة والفائق الدقة والفخامة.
استغرق تشييد الأوبرا الخديوية ستة أشهر وتكلف بناؤها مليونا وستمائة ألف جنيه، وقد تم افتتاحها في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1869 مع احتفالات قناة السويس، وكان بصحبة الخديو إسماعيل في حفل الافتتاح الإمبراطورة أوجيني، زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، والإمبراطور فرانسو جوزيف عاهل النمسا، وولي عهد بروسيا، وبعض العظماء وأقطاب السياسة والفكر والفن من أنحاء أوروبا، الذين حضروا خصيصا حفل افتتاح قناة السويس وافتتاح الأوبرا الخديوية.
وتذكر المصادر التاريخية أن مارييت باشا (عالم المصريات الفرنسي) طلب من الخديو اختيار قصة من صفحات التاريخ المصري القديم تصلح نواة لمسرحية شعرية تفتتح بها الأوبرا، وبالفعل قام بنظمها الشاعر الإيطالي جيالا نزوق، وعهد الخديو إسماعيل إلى الموسيقار فردي بوضع موسيقاها الرفيعة، فكانت الأوبرا الخالدة «عايدة» بموضوعها الوطني المصري وأغانيها الجياشة وموسيقاها الرائعة من نتاج العبقريات الثلاث، وقد كافأ الخديو إسماعيل فردي على عمله بمائة وخمسين ألفا من الفرنكات الذهبية.
ورغم اهتمام الخديو إسماعيل ورغبته الأكيدة في أن تفتتح دار الأوبرا الخديوية بعرض أوبرا عايدة التي أنفق على إعدادها الكثير من حيث تكاليف الملابس والمناظر والديكورات ولم يبخل بمال أو جهد لإخراجها في أبهى صورة وفي الموعد المحدد، رغم ذلك كله حالت الظروف دون تقديمها في موعد الافتتاح ومثلت بعد الافتتاح بعامين في 24 ديسمبر (كانون الأول) 1871، بينما تم افتتاح الأوبرا الخديوية بعرض «ريجوليتو» التي وضع موسيقاها فردي أيضا، واحتراما للشخصيات الهامة التي حضرت الافتتاح حرص الفنانون على تقديم العرض بجواهر حقيقية.
واعتبرت الأوبرا القديمة هي الأولى في قارة أفريقيا، واعتبر مسرحها واحدا من أوسع مسارح العالم رقعة واستعدادا وفخامة، حيث كان المسرح يتسع لثمانمائة وخمسين شخصا، كما أعدت بالدار الكثير من الردهات المجهزة والمخصصة للراحة والتدخين، أما خلف المسرح فقد بني من ثلاثة طوابق، احتوى الطابق الأول على حجرات مخصصة لفرق الرقص والتدريبات وغرف للممثلين وفرق الإنشاد، وأعد الطابق الثاني كمخزن للديكورات، واستخدم الطابق الثالث في حفظ الملابس والأثاث والأدوات، كما اشتمل المبنى على الكثير من الورش لصناعة الملابس وتصميم الديكورات والأثاث للعروض المختلفة، واحتوى المبنى على متحف للإكسسوارات والحلي التي تستعمل في الأداء التمثيلي.
وعلى مدى قرن من الزمان هو تقريبا عمر الأوبرا الخديوية القديمة توالت على رئاستها أسماء مختلفة، كان أولها بافلوس وهو يوناني الجنسية ويعتبر أول من تولى الإشراف على بنائها وإدارتها وتقديم أوبرا «عايدة»، ثم تولاها أيضا المؤلف الموسيقي بسكوالي كلمنته من عام 1886 إلى عام 1910، ثم تلاه جنارو فورنارنو من عام 1911 إلى عام 1931، وقد توقف الموسم في هذه الفترة بسبب الحرب العالمية الأولى، ثم كان معلم الأميرات نورتاتوتو كانتوني رئيسا لها منذ عام 1932 إلى عام 1937.
أما أول مصري يرأس الأوبرا فهو منصور غانم الذي لم يستمر أكثر من عام، ثم كان الفنان سليمان نجيب خلال الفترة من 1938 إلى عام 1954، ثم تولاها الشاعر عبد الرحمن صدقي وهو صاحب مقولة «إذا كانت القاهرة هي عاصمة مصر، فدار الأوبرا هي عاصمة القاهرة»، ثم كان المهندس محمود النحاس رئيسا لها عام 1956، وتعتبر فترة رئاسته من أزخر الفترات بالبالية الروسي، ثم كانت فترة صالح عبدون، وهو من هواة الموسيقى ويعد آخر رئيس للأوبرا الخديوية.
استمرت الأوبرا الخديوية واجهة لمصر وفي خدمة الفن الرفيع حتى فجر الثامن والعشرين من أكتوبر 1971 عندما احترقت، خصوصا أنه زارها العظماء من الفنانين الفرنسيين والإيطاليين والروس والإنجليز. وكانت الأخشاب المستخدمة في بنائها بالكامل من عوامل سرعة انتشار النيران وعدم إمكانية السيطرة عليه، فلم يتبقَّ من الأوبرا القديمة سوى تمثالي الرخاء ونهضة الفنون، وهما من عمل الفنان محمد حسن، والتهمت النيران مناظر الأوبرات والباليه التي تركتها الفرق الأجنبية هدية للدار اعترافا منها بالدور الرائد لمصر في نشر تلك الفنون الرفيعة، كما احترقت لوحات كبار المصورين التي كانت معلقة على جدار الأوبرا والآلات الموسيقية ونوتات مئات الأوبرات والسيمفونيات.
تضاربت الشهادات حول أسباب الحريق، إلى أن انتهت التحقيقات المطولة إلى أن السبب هو حدوث ماس كهربائي. ورغم تشكيك البعض وقتها في ذلك السبب وإشارتهم إلى أن هناك أسبابا أخرى، لكن لم يتم التحقق منها لصعوبة ذلك.
إلا أن شهادات حول الواقعة يمكن معرفتها عند مشاهدة فيلم وثائقي حديث بعنوان «حرق أوبرا القاهرة»، للمخرج والمصور السينمائي المصري كمال عبد العزيز، حيث يشمل تحقيقات ولقاءات حية مع ثلاثة عشر شخصا تولوا مناصب في إدارة الأوبرا، أو قاموا بالعمل فيها كفنيين وفنانين، ووثقوا شهاداتهم بالكلمة والصورة لهذا الحريق. فمن بين الشهادات التي يضمها الفيلم وتتحدث فيه عن حكايتها مع الأوبرا الدكتورة ماجدة صالح باليرينا مصر الأولى السابقة، وقائدا الأوركسترا د. طه ناجي ومصطفى ناجي، والمغنون الأوبراليون حسن كامي ود. رتيبة الحفني وفيوليت مقار، وصالح عبدون آخر مدير للأوبرا القديمة، والعازف عبد الحميد جاد، إلى جانب المغني الأوبرالي جاريجوار بارتيمان وعازف البيانو ألدو ميناتو اللذين عملا في الأوبرا المحترقة، بالإضافة إلى بعض الفنيين مثل فايق حنا مدير الكهرباء بالأوبرا، وشحاتة أحمد فني تغيير المناظر، وسمير عبد الباقي وهو نجار قديم بالأوبرا.
فيقول قائد الأوركسترا د. طه ناجي في شهادته: «قبل الحريق حدثت حادثة، كان فيه نجفة كبيرة جدا معلقة وسط الأوبرا، فجأة اختفت، وهي لا يمكن إخراجها من الباب إلا مفككة، واحد مرتشٍ فكها، ووضعت في صناديق وخرجت من الباب، حريق الأوبرا نتيجة إهمال وتخريب، كنا قريبين للنكسة وكان هناك تخريب وإهمال شديد من إدارة المطافئ القريبة جدا».
أما فيوليت مقار، وهي مغنية أوبرا شهيرة، فتقول إنه لا أحد حتى الآن يعرف من حرق دار الأوبرا، وما تعرفه فقط أن الجميع حزن بشدة وقتها، وأنها شخصيا لا تعرف ولا أحد يعرف من قام بحرقها.
وجاءت شهادة صالح عبدون، آخر مدير للأوبرا لتلقي بمفاجأة، حيث يقول في كلمته: «أنا رأيي أن الأوبرا احترقت بفعل فاعل، حركة سياسية من بعض الناس ليحرجوا السادات، ليلعبوا لعبة أشبه بحريق القاهرة ولكن أصغر، هكذا تصوروا ليستولوا على القاهرة، وهذا رأيي».
ويعقب على هذه الشهادات مخرج الفيلم كمال عبد العزيز، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «هؤلاء الأشخاص عاشوا فترة الأوبرا القديمة وكلهم تحدثوا وعبروا بنفس اللسان عن تجربتهم وعن إحساسهم وقتها بمستقبلهم الذي ضاع، مجمعين على أن ما حدث كان كارثة حلت بفنار الثقافة المصرية وقتها، كما طرحت كلماتهم عن أسباب الحريق وجهات نظر متعددة وكونت صورة أشمل عن تلك الكارثة التي أغلق عليها الباب ولم يُعرف حتى الآن السبب الحقيقي لحريق الأوبرا».
ما يزيد من أهمية هذه الشهادات الحية أن مخرج الفيلم دعمه بفيلم سينمائي تم تصويره بالصدفة وقت الحريق من جانب شخص ألماني هاوٍ كان يمر بجوار الحادث وكان معه كاميرا سينمائية، سجل بها الحريق منذ بداية الثواني الأولى لاشتعال النيران بين أركانه وأثناء تهاوي أجزائه.
ويتابع عبد العزيز، الذي حصل فيلمه مؤخرا على جائزة من مهرجان الإسكندرية السينمائي، ورغم ذلك يلاقي صعوبة في تسويقه: «هذا الحدث كان الجميع يظن أن أحدا لم يسجله سينمائيا، لكن بحثي وعشقي للتراث قادني للعثور على هذا الفيلم، وبعد عشرين عاما اقتنعت أرملة المصور الألماني الهاوي بإخراج هذه الوثيقة الوحيدة والفريدة التي تسجل سينمائيا حادث حريق الأوبرا الخديوية إلى النور». وبيّن مخرج الفيلم أنه قام بالبحث طويلا عن صور للحريق، وقام بشرائها من مصورين أرمن وأجانب ومن ورثة مصورين صحافيين، إلى جانب استعانته بمجموعة كبيرة من الوثائق عن حريق الأوبرا، وأخرى عن العروض التي قدمت على خشبتها والزائرين لها.