تماثيل صدام حسين اختفت من مدن العراق وبقيت سليمة في المنطقة الخضراء

الفنان علاء بشير لـ«الشرق الأوسط»: تهديم الأعمال الفنية يستهدف حضارة العراق

قوس النصر بساحة الاحتفالات بحماية القوات الأميركية في المنطقة الخضراء («الشرق الأوسط»)
TT

لم يكن أي شارع أو بناية حكومية أو مدينة أو قرية في عموم العراق تخلو من تماثيل منحوتة وجداريات مرسومة للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وكان أكبر هذه التماثيل وأكثرها إبداعا هو الذي نحته الفنان العراقي المبدع سهيل الهنداوي الذي نصب في ركن واسع من متنزه الزوراء مطلا على 4 شوارع تربط بين أحياء المنصور والحارثية والقادسية وشارع الزيتون بجانب الكرخ من بغداد.

هذه التماثيل واللوحات الجدارية كلها اختفت بعد الاحتلال الأميركي في 2003، بل كانت القوات الأميركية هي التي بادرت بتحطيم تمثال صدام حسين الواقع في ساحة الفردوس قرب فندقي شيراتون وميريديان بجانب الرصافة من العاصمة العراقية، وتوالى بعدها تحطيم جميع التماثيل وتشويه اللوحات المرسومة.

لكن المفارقة تكمن في أن هذه التماثيل اختفت من شوارع وساحات المدن والقرى العراقية لكنها بقيت سليمة تقريبا في حدود المنطقة الخضراء التي تخضع لحماية مشددة وهي مركز غالبية السفارات العربية والغربية، وأهمها السفارتان الأميركية والبريطانية، كما أن قصور ومكاتب غالبية المسؤولين الحكوميين وأعضاء البرلمان العراقي تقع هناك، ومنهم مسكن ومكتب رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي.

ولا يرى الدكتور الفنان علاء بشير أي غرابة في تصرف العراقيين مع تماثيل ولوحات صدام حسين، يقول «كان هناك نصبان نحتيان للملك فيصل الأول، أول الملوك ومؤسس العراق الحديث، ونصب للجنرال مود قائد القوات البريطانية التي احتلت العراق في بدايات القرن الماضي، وقام العراقيون بجرجرة النصبين ورميهما في نهر دجلة بعد 14 يوليو (تموز) 1958 عندما تم قتل العائلة المالكة وإعلان الحكم الجمهوري في العراق».

ويضيف بشير، وهو اختصاصي في الجراحة المجهرية، وفنان تشكيلي عراقي معروف على المستوى العالمين قائلا لـ«الشرق الأوسط»: إن «هذه الظاهرة، وأعني تحطيم النصب والأعمال الفنية التي تمثل أو ترمز أو تشير إلى أنظمة أو شخصيات سياسية سابقة يكاد ينفرد بها الشعب العراقي، وهي ظاهرة غريبة، مع أن العراقيين القدماء هم أول من نحت ومجد وخلد ملوكهم مثل حمورابي ونبوخذ نصر وكلكامش».

ويشير الدكتور بشير إلى أن «الثورة الروسية عندما اندلعت ضد القياصرة بقيادة الشيوعيين لم يقم الثوار بتهديم الأعمال الفنية والتماثيل والنصب التي تخلد القياصرة وعصرهم، بل على العكس من ذلك كان لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا قد أمر الثوار بالمحافظة على الأعمال الفنية والنصب التي تخلد القياصرة كونها ثروة قومية، واليوم تعد هذه الأعمال من أروع ما خلفته مرحلة القياصرة الروس للإنسانية، وهذا ما حدث أيضا في الثورة الفرنسية، وفي عموم أوروبا».

يضيف الدكتور بشير، الذي كان قد نحت نصبا فنيا حضاريا باسم (اللقاء) بجانب الكرخ وتم تهديمه قبل أقل من عامين، قائلا: «إن عملية تهديم الأعمال الفنية والتماثيل لم تقتصر في عراق ما بعد 2003 على تماثيل ولوحات صدام حسين، بل اتسعت وطالت بقية الأعمال والإنجازات الإبداعية إذ اقتلعت مخالب البلدوزرات منحوتات النصب الفني الكبير الذي يحمل عنوان (المسيرة) للنحات الراحل خالد الرحال، النصب كان عبارة عن سفينة تتقدم إلى أمام وتحمل منحوتات تمثل تطور الحضارة العراقية، إذ اعتبره الحكام الجدد أنه يرمز لحزب البعث مع أن الجميع يعرفون أن الرحال كان أبعد ما يكون عن السياسة والبعث».

غير نصب المسيرة تم تحطيم تمثال لوزير الدفاع العراقي الأسبق عدنان خير الله كونه كان ابن خال صدام حسين، كما تم تفجير قاعدة تحمل نصبا يمثل وجه أبو جعفر المنصور، باني بغداد، بتهمة أنه كان طائفيا، ثم امتدت أيادي الهدم لتدمر نصب اللقاء في حي المنصور ووسط ساحة حملت اسم النصب (ساحة اللقاء)، يعلق الفنان علاء بشير الذي نحت نصب اللقاء قائلا: «ليست هناك أي أسباب دفعت لتهديم نصب اللقاء، فهو عبارة عن عمل فني يرمز لكتلتين متلاقيتين، الرجل والمرأة في إشارة واضحة للحياة من غير أن يكون هناك تجسيد للرجل أو المرأة، ولم يضع صدام حسين عليه أيا من كلماته بل أنا وضعت عليه بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق الإنسان، وتم تنفيذه بتقنيات ومواد عراقية بحتة إذ تم جلب الصخور المكونة للنصب من نينوى في شمال العراق»، منوها إلى «أني لم أكن بعثيا ولم أعمل في أي حزب والنصب لم يكن يرمز إلى البعث أو صدام حسين، فأنا طوال عمري فنان تشكيلي وطبيب متخصص وأستاذ جامعي، لكن هذه الأعمال التخريبية تستهدف حضارة العراق ليس إلا، وأن من يحكم العراق اليوم هم ضد الحضارة والتقدم والإبداع، ومن هنا أعلن عن خشيتي وخشية الكثير من العراقيين على مصير بقية النصب والأعمال الفنية المهمة وفي مقدمتها نصب الحرية للنحات جواد سليم، ونصب الشهيد للنحات إسماعيل فتاح الترك، ونصب الجندي المجهول للنحات خالد الرحال».

في ساحة الاحتفالات القريبة من حي الحارثية بجانب الكرخ والتي تقع ضمن حدود المنطقة الخضراء لا يزال هناك نموذج منحوت لكف صدام حسين تحمل السيف العربي مشكلة وبصورة متقابلة قوس النصر وإلى جانبه جدارية من المرمر تحمل مقولات بخط الرئيس العراقي الأسبق، كما أن هناك الكثير من التماثيل التي تجسد صدام حسين تم المحافظة عليها بفعل جهود مؤسسة الذاكرة العراقية التي أسسها المهندس والكاتب العراقي كنعان مكية.

يقول الكاتب مصطفى الكاظمي مدير عام مؤسسة الذاكرة العراقية في بغداد «لقد جرت محاولات، وما زالت قائمة، لتهديم قوس النصر وكل ما تبقى من آثار تمثل النظام السابق ورئيسه صدام حسين، لكن مؤسستنا وقفت وتقف بقوة ضد هذه المحاولات»، مشيرا إلى أن «هذا النصب والتماثيل هي جزء من الذاكرة العراقية التي من مهمة مؤسستنا المحافظة عليها، فذاكرة العراق فيها ما هو إنساني وجيد وما هو سيئ ولا بد للأجيال من أن تطلع على الذاكرة كاملة وليست مجتزأة».

ولا يخفي الكاظمي مخاوفه من أن «تنتصر إرادة التهديم وتتمكن من إزالة قوس النصر وغيره رغم أن هناك قرارات اعتبرت عائدية ساحة الاحتفالات لمؤسسة الذاكرة العراقية».

ويعلق فنان تشكيلي عراقي مقيم ببغداد قائلا: «الغريب أن الجداريات المحمولة على قواعد التي كانت تحمل صور صدام حسين في كل مدن العراق لا تزال قائمة لكنها تحمل اليوم صورا أخرى مثل لوحات بورتريه لمحمد باقر الصدر وأخيه محمد صادق الصدر، وكذلك ظهور جداريات جديدة تحمل صور محمد باقر الحكيم وأخيه عبد العزيز الحكيم، وهذه الجداريات تنتشر في مدينة الصدر وحي الكرادة ببغداد وفي محافظات وسط وجنوب العراق».