رئيس فخري يتحول فجأة إلى صاحب القرار الأول في إيطاليا

دور نابوليتانو في نقل السلطة من برلسكوني إلى مونتي أكسبه تقديرا واسعا بين الإيطاليين

جورجيو نابوليتانو
TT

البعض يطلق عليه «ري جورجيو» أو الملك جورج، لدفاعه عن المؤسسات الديمقراطية الإيطالية والدور الكبير الذي لعبه وراء الكواليس في التحول السريع من حكومة سيلفيو برلسكوني الاستعراضية إلى حكومة ماريو مونتي التكنوقراطية. إنه الرئيس جورجيو نابوليتانو (86 عاما) العضو السابق رفيع المستوى بالحزب الشيوعي في إيطاليا، ويقال إن هنري كيسنجر قد اعتبره «الشيوعي المفضل» بالنسبة له، الذي توج مسيرة حياته المهنية المميزة الشهر الماضي بتنسيق أحد أكثر التحولات السياسية تعقيدا في تاريخ إيطاليا ما بعد الحرب، الذي ما زال يمثل ضامنا رئيسيا للاستقرار السياسي في فترة حافلة بالاضطرابات.

كان أداؤه الأكثر تأثيرا من نوعه، بالنظر إلى أن الرئاسة الإيطالية هي منصب فخري لا يضم أي سلطات تنفيذية. غير أن نابوليتانو، المعروف بحديثه المباشر وأسلوبه العملي في ظل ثقافة تتميز بالتعبيرات المنمقة، قيد حدود دوره كرئيس ليصبح صانع قرارات سياسية هادئا.

وقد أمضى شهورا في وضع حجر الأساس لهذا التحول، من خلال إجراء مشاورات مع قادة سياسيين إيطاليين وقادة أوروبيين ومسؤولين أميركيين وبنك إيطاليا لتوجيه عملية تشكيل حكومة بديلة لفترة «ما بعد برلسكوني». وقال نابوليتانو في البيان الذي أعلن فيه عن تعيين مونتي رئيسا للوزراء: «حان الوقت الآن لإظهار أكبر قدر ممكن من المسؤولية. إنه ليس وقت سداد الديون السابقة أو تبادل الاتهامات بين أنصار الأحزاب المختلفة بشكل عقيم. إنه وقت إعادة تهيئة مناخ من الهدوء والاحترام المتبادل».

وقال أندريا سيمونتشيني، أستاذ القانون الدستوري بجامعة فلورنسا: «إن نابوليتانو لم يمل توقيت الحل فحسب، وإنما أيضا محتوياته، وهذا هو الأمر الغريب. لم يقل: (عليك أن تفعل هذا فورا)، إنما اختار مونتي بالأساس وهيأ الظروف المواتية بحيث لا يعطي الشعب الفرصة لرفض مونتي».

اليوم، يشار إلى حكومة مونتي على نطاق واسع باسم «حكومة الرئيس»، التي يدعمها كل من نابوليتانو والاتحاد الأوروبي وأيضا البرلمان الإيطالي، الذي منح الثقة لحكومة مونتي الشهر الماضي، لكنه لم يصدق بعد على إجراءات التقشف الجديدة التي لا تحظى بالتأييد الشعبي. ومثلما يحدث في المعتاد في إيطاليا، كان الزخم بطيئا، غير أن التغيير حدث بشكل سريع. على مدار أشهر، تشبث برلسكوني بالسلطة من دون دعم قوي، جاعلا إجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة أمرا مستحيلا مع استمرار الأسواق العالمية في الضغط على إيطاليا. وكانت بداية تدهور الوضع الاقتصادي لإيطاليا في 8 نوفمبر (تشرين الثاني)، حينما خسر برلسكوني تأييد الأغلبية في تصويت في اليوم نفسه الذي دفعت فيه أسواق السندات أسعار الفائدة على القروض إلى المستويات نفسها التي قد أجبرت الدول الأخرى في منطقة اليورو على طلب حزم إنقاذ.

في تلك الليلة، توجه برلسكوني لمقابلة نابوليتانو في قصر كويرينال الرئاسي لإجراء مشاورات. ويقول معاونوه إن الاجتماع سادته روح ودية، غير أن نتيجته جاءت واضحة بشكل قاطع: «رئيس الوزراء قد وافق على ترك منصبه».

واتخذ نابوليتانو إجراء فوريا، حيث أقال مونتي من منصبه كرئيس لجامعة بوكوني في ميلانو، وعينه عضوا في مجلس الشيوخ، مانحا إياه العضوية الكاملة في البرلمان.

ساعدت تكنولوجيا المعلومات نابوليتانو، الذي بدأت فترته الرئاسية الممتدة لسبع سنوات في عام 2006، في أن يحظى بنسبة قبول شعبي تقدر بنحو 80 في المائة، مقارنة بنسبة 20 في المائة في الأسابيع الأخيرة من عهد برلسكوني. وفي ظل الوضع المقلوب الذي عاشته إيطاليا في عهد برلسكوني، حيث جاءت الحياة الشخصية لرئيس الوزراء لتغطي على عمل حكومته، ظهر نابوليتانو كنموذج مناقض تماما لبرلسكوني. فمع وقوف زوجته، كليو، المحامية الأنيقة المفعمة بالحيوية، التي تزوجها في عام 1959، إلى جانبه، بدأ ينظر لبرلسكوني باعتباره يجسد عالما إيطاليا مختلفا، عالما من الفضيلة المدنية. واعتبرت النسخة الصادرة من مجلة «وايرد» هذا الشهر نابوليتانو رجل العام، نظرا لإظهاره «سرعة مفاجئة في البقاء على اتصال بالواقع».

وحتى بعد استقالة برلسكوني، لم تكن فكرة أن تحل حكومة تكنوقراط محل وزارته مطروحة على الإطلاق. كان موقف ائتلاف يمين الوسط، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق قويا ثابتا على مبدئه في انتخابات مبكرة، وينتقد البعض من ائتلافه السابق حكومة مونتي، بوصفها انقلابا مناهضا للديمقراطية، غير أنه في ظل نظام جديد وظفت فيه الأسواق العمليات الديمقراطية التقليدية، أجرى كل من الرئيس الأميركي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي اتصالات بنابوليتانو أثناء فترة التحول الحساسة للتعبير عن دعمهم لقيادته، وهي الاتصالات التي نظر إليها على نطاق واسع بوصفها دعما ضمنيا لحكومة مونتي في الانتخابات المبكرة. وكان هذا دليلا على مدى الشعبية التي حققها نابوليتانو خلال السنوات الأخيرة من رئاسته. وفي وقت ما، كانت فكرة توجيه رئيس أميركي الشكر لنابوليتانو، الذي كان بالأساس وزير خارجية الحزب الشيوعي الإيطالي، أو حتى اتصاله به، غير واردة.

في سنواته الأولى، لم يحد نابوليتانو بدرجة كبيرة عن نهج الحزب الشيوعي، وفي إحدى المرات ذهب إلى القول إن الغزو السوفياتي للمجر في عام 1956 قد أسهم في تحقيق السلام في العالم، بحسب مقال نشر في عام 2006 في صحيفة «كوريير ديلا سيرا». لكن في عام 1969، انضم إلى مجموعة من الشيوعيين الإيطاليين الذين انفصلوا عن الكرملين بسبب انتقادهم لقمع انتفاضة ربيع براغ التي اندلعت في عام 1968. وعلى غرار كثير من الشيوعيين من نابولي، مسقط رأسه، أتى نابوليتانو من الجناح الأكثر تحفظا بالحزب، والذي كان يعرف أعضاؤه باسم «المحسنين» لرغبتهم في جعل العالم أفضل من خلال حكومة وليس ثورة.

وكتب ريتشارد غاردنر، سفير الولايات المتحدة لدى إيطاليا في عهد جيمي كارتر، في مذكراته عن اجتماعاته السرية مع نابوليتانو، الذي كان يحظى بالقدر الكافي من الاحترام ليصبح أحد أول المسؤولين الشيوعيين الإيطاليين الذين يزورون الولايات المتحدة. وقد قام بالزيارة في عام 1978، بعد بضعة أسابيع من حادث اختطاف رئيس الوزراء، ألدو مورو، من قبل جماعة يسارية متطرفة، وألقى محاضرات قوبلت باستحسان كبير في جامعات بارزة. ولم يذكر أحد سوى جوليو أندريوتي، المنتمي للحزب الديمقراطي المسيحي، الذي ترأس الحكومة الإيطالية سبع مرات، ويعتبر العقل الموجه للسياسات الإيطالية في فترة ما بعد الحرب، إنه ساعد نابوليتانو في الحصول على تأشيرة سفر.

في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، وبينما كان المشروع الشيوعي على وشك الانتهاء، واتخذ الحزب رد فعل ممثلا في التكاتف والاتحاد، خسر نابوليتانو شعبيته بدعوته لإقامة علاقات أقوى مع الاشتراكيين، الذين يشاركهم رؤاهم الديمقراطية الاجتماعية. وغادر البلاد متجها إلى ستراسبورغ في فرنسا، حيث كان عضوا في البرلمان الأوروبي في الفترة من 1989 إلى 1992. وفي أعقاب انهيار النظام السياسي القديم في إيطاليا جراء فضيحة رشوى، عاد نابوليتانو إلى إيطاليا في عام 1992 وأصبح رئيسا لمجلس النواب، حيث طالب بدعم عام. وفي عام 1996، كان ينظر إليه باعتباره شخصا لا خلاف عليه، بحيث يصلح لأن يكون أول وزير داخلية لإيطاليا في فترة ما بعد سقوط النظام الشيوعي، وهو منصب حساس سياسيا يتطلب رقابة من البوليس السري.

والآن، يتطلع الإيطاليون إلى نابوليتانو لتوجيه دفة الدولة بمهارة هادئة، في الوقت الذي يقوم فيه مونتي وفريقه من التكنوقراطيين بتحدي إنقاذ اقتصاد إيطاليا المتداعي. وقال باولو أولسوفيبف، وهو رجل أعمال متقاعد، بينما كان يقرأ جريدة في مطعم في وسط إيطاليا: «أقدر حيويته وشجاعته اللافتتين بالنسبة لرجل في هذه السن. إنه الرجل الوحيد القادر على إبقاء الوحوش الضارية في سيرك البرلمان الإيطالي على مسافات متباعدة».

* أسهمت غايا بيانجياني في إعداد التقرير

** خدمة «نيويورك تايمز»