حكومات الأقاليم في إسبانيا تستنجد بالعودة للمركز

العجز المالي و«الديون الخفية» يخنقان مناطق الحكم الذاتي ومشاريع عدة باتت مهددة بالإغلاق

سجن جديد في فيغيرس يكلف حكومة كاتالونيا 1.3 مليون دولار شهريا رغم عدم وجود أي نزيل فيه (نيويورك تايمز)
TT

في مواجهة عجز في الميزانية أكبر من المتوقع، أعلنت الحكومة الجديدة في إسبانيا، عن حزمة زيادات ضريبية وتخفيضات في الإنفاق قيمتها 19.3 مليار دولار، أول من أمس، وأقرت أن الحالة المالية لإسبانيا ربما تكون قد ازدادت سوءا بسبب النفقات الطائلة من قبل المناطق المتمتعة بحكم ذاتي.

وذكر رئيس الوزراء الجديد، ماريانو راجوي، أن حزمة إجراءات التقشف ضرورية للحفاظ على ثقة أسواق السندات الأوروبية بعد أن بات من الواضح أن العجز في الميزانية يتوقع أن يصل إلى 8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي هذا العام، وذلك أعلى بنسبة 2 في المائة من النسبة التي حددتها الحكومة.

وبينما لا يعتبر الوضع المالي العام لإسبانيا كارثيا مثلما هو عليه في إيطاليا، فإنها تعاني من مشكلة أخرى خاصة بها. وقال وزير الخزانة الجديد، كريستوبال مونتورو، أول من أمس: «هناك عجز خطير في الميزانية في 17 منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، أنفقت مبالغ طائلة خلال العقد الماضي».

وقد طالت صور التبذير المناطق الريفية. فأعلى تل هنا في مسقط رأس سلفادور دالي، في شمال شرقي إسبانيا، يوجد سجن ضخم خاو على عروشه. لكن، على الرغم من عدم وجود سجين واحد داخله، فإنه يكلف السجن حكومة منطقة كاتالونيا المثقلة بالديون 1.3 مليون دولار شهريا، في صورة مدفوعات فائدة. وفي حال انتقال سجناء بالفعل إلى السجن، فسيكلف حكومة المنطقة، 2.6 مليون دولار إضافية كل شهر. لكنه يقبع خاويا في هذه المنطقة، على نحو يثير السخرية، حتى إنه عادة ما يشار إليه باسم «المنتجع الصحي».

ويرى محللون أن الأخطاء تزيد من تفاقم الأزمة. فقد أعلن «بنك إسبانيا» خلال الشهر الحالي أن حجم الدين الإقليمي قد زاد بنسبة 22 في المائة، ليصل إلى 176 مليار دولار في سبتمبر (أيلول)، بعد أن كانت قيمته 144 مليار دولار العام الماضي. ويقول خبراء إنه تظل هناك عشرات المليارات من الدولارات في صورة دين إقليمي «خفي» لم يتم اكتشافه بعد.

ويعد الوضع المالي للحكومات الإقليمية غاية في السوء، في واقع الأمر، إلى حد أن بعضها ربما تعتزم - بل تتوق إلى التخلي عن بعض أعبائها واسعة النطاق المكلفة، مثل الرعاية الصحية والتعليم.

وتأتي أزمة الدين على رأس القضايا التي تجبر الاتحاد الأوروبي على تغيير نمط علاقته بالدول الأعضاء، ومن خلال زيادة درجة المراقبة والسيطرة، يعتقد بعض الخبراء أن بعض المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي في إسبانيا ربما تقل درجة استقلاليتها في المستقبل.

وفي السنوات الأخيرة، زاد حجم ديون الأقاليم والبلديات، نتيجة تقديمها خدمات عامة بسخاء واستثمارها في نطاق واسع من المشروعات، بعضها هامشي، بحسب منتقدين.

فعلى سبيل المثال، في منطقة كاستيا لا مانتشا، وهي منطقة زراعية تقع على حدود إسبانيا، تم بناء مطار كامل له مهبط ضخم بحيث يسع طائرات جامبو. لكن ربما يتم إغلاقه قريبا، نظرا لأنه لا توجد أي شركة طيران - حتى تلك التي تشغل طائرات أصغر حجما - مهتمة بإطلاق رحلات إلى هناك.

ولم يكن حال البلديات أفضل كثيرا. فقد زاد حجم ديونها بدرجة هائلة ليصل إجمالي قيمتها الآن إلى نحو 48 مليار دولار.

وأنفقت مدينة ألكوركون (10 أميال جنوب غربي مدريد)، 150 مليون دولار على مركز ثقافي شامل يضم سيركا دائما وينظم حفلات أعياد ميلاد مجانية للأطفال. وهناك ما يعرف باسم «الدين الخفي»، والذي يتمثل معظمه في فواتير غير مسددة، وهي غير مضمنة في إجمالي الدين الوطني لإسبانيا المقدر بـ915 مليار دولار. وربما يزيد بقيمة تتراوح ما بين 25 إلى 40 مليار دولار، بحسب خبراء.

ربما لم تنته الأخبار السيئة. فبعض الخبراء يرون أنه مع تولي أعضاء منتخبين حديثا بالحزب الشعبي الذي يرأسه راجوي مسؤولية بعض الإدارات الإقليمية، من المؤكد أنهم سيكشفون النقاب عن مزيد من التجاوزات المالية. وهذا ما حدث في كاتالونيا، حيث ظهرت على السطح مشكلة «الدين الخفي» هذا العام. وحينما أجريت الانتخابات هناك في عام 2010، كان من المعتقد أن نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي الإقليمي أقل من 2 في المائة. لكن بعد التصويت، كشفت الحكومة الراحلة عن أنه ربما وصلت نسبة العجز في الميزانية على مدار العام إلى نسبة 3.3 في المائة. ولاحقا، عدلت الحكومة الجديدة هذه النسبة لتصبح 3.8 في المائة. ويرى خبراء أن هذا النوع من الزيادة في نسبة عجز الميزانية ممكن حدوثه في كل مكان، بما في ذلك الأندلس في الجنوب، والتي عاصمتها إشبيلية.

وقد نادت بعض المناطق، مثل منطقة الباسك، التي عانت على وجه الخصوص من قمع شديد في عهد فرانكو، بحقها في التمتع بالحكم الذاتي. وعلى الرغم من ذلك، يبدو الآن أن هذا الاتجاه يسير بشكل عكسي.

وكان أحد عوامل تفضيل إعادة صياغة نظام المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي في إسبانيا هو الانتصار الساحق للحزب الشعبي. فقد منح هذا المحافظين سيطرة على الحكومة المركزية ومعظم الإدارات الإقليمية، وهو أمر لم يحدث قبل ذلك قط. في الماضي، كان الممكن أن تلقي الأقاليم والحكومة المركزية، التي عادة ما تتألف من أحزاب معارضة، اللوم على بعضها البعض في أي أزمات مالية تظهر على السطح. ولكن ذلك لم يعد ممكنا الآن.

ولدى المناطق المتمتعة بحكم ذاتي مسؤوليات جسيمة. فهي ملقى على عاتقها بشكل عام مسؤولية إدارة المدارس والجامعات وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية والنهوض بالمشروعات الثقافية والتنموية، وضبط الأمن، في بعض الحالات. وتعد حقائب التعليم والرعاية الصحية أكثر الحقائب المسببة للمشكلات، نظرا لأن تكاليفها آخذة في الزيادة. وفي الوقت نفسه، تم استنزاف بعض مصادر التمويل الأساسية - مثل الضرائب على مبيعات العقارات ورسوم تراخيص المباني - مع أزمة الإسكان. ولهذا السبب، ربما ترغب بعض المناطق بالفعل في أن تتحمل الحكومة المركزية مجددا مسؤولية الرعاية الصحية والتعليم. وفي يوليو (تموز)، اقترح ذلك مسؤولون من مناطق مورشيا وفالنسيا وأراغون.

تتمتع منطقة كاتالونيا، مثلها مثل منطقة الباسك، بالحكم الذاتي. لكنها تواجه معركة عسيرة، مع محاولتها السيطرة على ميزانيتها. لم يكن السجن المقام في فيغيرس، الذي يرى خبراء أنه غير ضروري، هو المشروع الضخم الوحيد الذي نفذته المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، في محاولة لإثبات أن الأشغال العامة ستوفر الحافز الاقتصادي المطلوب في مواجهة معدل البطالة المرتفع في إسبانيا، المقدر في الوقت الحالي بنسبة 22 في المائة.

وإضافة إلى السجن، بدأت كاتالونيا في تنفيذ مشروعات إنشاء طرق سريعة ومد خط الأنفاق في برشلونة لمسافة 30 ميلا، وهي مشروعات يصعب وقف العمل بها الآن. وقال السكرتير العام لوزارة الاقتصاد الإقليمية ألبرت كاريراس: «لدينا كثير من الالتزامات التعاقدية التي لا تجعل من السهل إيقاف العمل بهذه المشروعات». ومع ذلك، فإنه في الأشهر الأخيرة بدأت كاتالونيا في خفض ميزانيتها بطرق يتوقع أن تتبعها مناطق أخرى قريبا، مع أنها على غرار العديد من الحكومات الإقليمية الأخرى، عجزت عن تلبية أهداف نهاية العام.

وتسببت التخفيضات في مجموعة من المظاهرات والإضرابات، والتي تشمل حتى طلاب المدارس الثانوية، من بينهم طلاب مدرسة إنستيتيوت فرانسيسك ماسيا، المدرسة الثانوية الكائنة غرب ولاية برشلونة. عندما وجد أدريا خونيت، 17 عاما، نفسه في فصل فلسفة من الضخامة إلى حد أنه تعين على أستاذه استخدام ميكروفون ليمكن سماعه، نظم «اعتصاما» في قاعة المحاضرات. وقال: «لم نكن أصحاب المشكلات الوحيدين. تم خفض الميزانية الخاصة بفصول الكيمياء. هناك كل أنواع التخفيضات في الميزانية. وهذا لم يكن يحدث في عهد فرانكو».

* ساهمت راشيل شاندلر في إعداد التقرير

* خدمة «نيويورك تايمز»