تراجعت مصر خطوة عن أزمة مالية محتملة، بفضل استئناف المحادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن مساعدة طارئة، لكن من المستبعد أن تتفادى هبوطا في العملة أو ترى انتعاشا سريعا للاستثمار، وهو ما تحتاجه لتنشيط النمو، وذلك حسبما ذكرت «رويترز».
ويترنح الاقتصاد المصري منذ سبعة أشهر، حين رفضت الحكومة التي عينها الجيش محل حكومة الرئيس المخلوع حسني مبارك قرضا من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار. وتلاشى الاستثمار وتراجعت الاحتياطيات الأجنبية منذرة بأزمة في العملة، بينما توجد حالة من عدم اليقين بشأن سياسات الحكومة الديمقراطية التي ستحل محل الجيش.
وقد تنكسر هذه الحلقة بفضل اتفاق مع صندوق النقد، ليس فقط من خلال ضخ سيولة جديدة، بل من خلال إلزامها بمجموعة من السياسات للسيطرة على عجز الميزانية وتطبيق إصلاحات اقتصادية. لكن التفاوض على أي اتفاق مع صندوق النقد سيجري في ظروف سياسية صعبة، وستتولاه حكومة من المتوقع أن تسلم السلطة بعد أشهر. وربما فات الوقت بالفعل للحيلولة دون بعض التراجع في الجنيه المصري، وهو ما قد يرفع تكلفة المعيشة للفقراء.
وقالت علياء مبيض، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط في مصرف «باركليز كابيتال»، إن مصر قد تتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد سريعا، وربما في وقت يسمح ببدء صرف القرض في مارس (آذار)، لكنها أضافت «في هذه المرحلة لا بد من حزمة شاملة من إجراءات السياسة المتناسقة والالتزامات لاستعادة ثقة المستهلكين والمستثمرين». وقالت إن هذه الحزمة يجب أن تتضمن خطوات لاحتواء عجز الميزانية واستعادة الأمن العام والتقدم نحو التحول الديمقراطي واجتذاب المساعدات من مانحين دوليين آخرين بالإضافة إلى صندوق النقد. وأضافت أنه حتى عند التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد فمن المرجح أن تبقى العملة تحت ضغط في الوقت الراهن.
وقال مصدر في صندوق النقد لـ«رويترز» يوم الثلاثاء إن مصر ستبدأ المحادثات مع الصندوق في القاهرة هذا الأسبوع بشأن إمكانية الحصول على قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار لأجل 18 شهرا لسد الاحتياجات الفورية في ميزان المدفوعات.
وسبق لصندوق النقد أن أجرى مفاوضات ناجحة مع حكومات مؤقتة كما حدث في البرتغال مثلا العام الماضي. لكن في الحالة المصرية هناك قدر أكبر من الضبابية السياسية. ومن المتوقع أن تفضي انتخابات مجلس الشعب التي انتهت يوم الأربعاء إلى حكومة ائتلافية بزعامة الإخوان المسلمين الذين لم يسبق لهم أن وصلوا إلى الحكم. ويعتزم المجلس العسكري الحاكم الاستمرار في حكم البلاد حتى نهاية يونيو (حزيران)، حيث من المقرر انتخاب رئيس جديد بحلول ذلك الموعد، وهناك تفاصيل أساسية للنظام السياسي الجديد لم تقرر حتى الآن، منها توزيع الصلاحيات بين الرئيس والبرلمان.
ورفض المجلس العسكري الحاكم في العام الماضي قرض صندوق النقد الدولي بدافع من الكبرياء الوطني والإحجام عن إلزام نفسه بالشروط التي يطلبها الصندوق مثل القيود على الإنفاق الحكومي. وقد تكون لدى أي حكومة مصرية جديدة تحفظات مماثلة.
لكن هناك مؤشرات على أن الصندوق والساسة المصريين سينجحون في التغلب على هذه المعوقات. ولم تعارض جماعة الإخوان المسلمين فكرة مساعدة صندوق النقد. ومنذ أن أصبح واضحا أن «الإخوان» سيهيمنون على الحكومة المقبلة، فُتحت قنوات اتصال مع الحكومة التي عينها المجلس العسكري، وهذا يشير إلى أنه قد يتم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد بموافقة ضمنية من الإخوان.
ومن الخيارات المحتملة أن يقدم الصندوق المساعدة بموجب تسهيل أطلقه في نوفمبر (تشرين الثاني) يسمى أداة التمويل السريع. وهذا لا يتطلب الشروط التقليدية للصندوق المرتبطة بالقروض، لكن الصندوق يقول إن الدول «لا يزال يتعين عليها أن توضح التزامات سياساتها في خطاب نوايا، وأن تكون مستعدة للتعاون مع صندوق النقد لمعالجة صعوباتها».
ومن المؤشرات الإيجابية أيضا البيان الذي أصدره وزير المالية المصري ممتاز السعيد هذا الشهر، وقال إن عجز الميزانية لن يتخطى 8.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية التي تنتهي في يونيو 2012 مقارنة مع تقدير رسمي في يونيو الماضي بنسبة 9.5 في المائة في السنة المالية 2010 - 2011.
وقال صندوق النقد إن الإجراءات المالية التي أعلنتها الوزارة في يونيو 2011 قد تكون معايير لاتفاق قرض، وهو ما يعني أن محادثات الشهر الحالي لن تبدأ من الصفر. وقال صايم علي، كبير الاقتصاديين لمنطقة شمال أفريقيا في بنك «ستاندرد تشارترد»، إن الوضع الاقتصادي سيجبر الساسة المصريين على أن يكونوا واقعيين، وإن اتفاق صندوق النقد «قد يكون الخيار الوحيد الباقي لمصر لتفادي أزمة خطيرة في ميزان المدفوعات». وأضاف «الطريقة الوحيدة لتهدئة السوق هي أن تكون هناك مؤسسة بمثل تخصص وخبرة صندوق النقد تشرف على برنامج الإصلاح الاقتصادي». وأضاف أنه من المرجح أن يتضمن اتفاق صندوق النقد التزامات بإصلاحات في الميزانية والضرائب والدعم الحكومي ستكون مصر مجبرة على القيام بها في نهاية المطاف بسبب الظروف الاقتصادية القاسية. وقال محللون إن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي سيحمي البلاد من كارثة بالحيلولة دون أي انهيار غير محكوم للجنيه المصري من شأنه تعطيل الواردات والإضرار بقدرة المصانع على التشغيل.
وقالت علياء مبيض «التحدي هو تفادي خفض فوضوي كبير بنسبة 30 أو 40 في المائة من شأنه إثارة مزيد من الهلع». وأضافت «من المتوقع أن يكون هذا ممكنا في إطار حوار مفتوح ومنتظم مع صندوق النقد بشأن السياسات». وربما كان يمكن لقرض من صندوق النقد بقيمة ثلاثة مليارات دولار قبل سبعة أشهر أن يعيد التدفقات الرأسمالية إلى مصر، إلا أن اقتصاديين يرون أن اتفاقا بهذا المبلغ لم يعد كافيا، ويستشهدون بالهبوط الحاد في الاحتياطيات النقدية التي تراجعت إلى النصف على مدى العام الماضي لتصل إلى 18.1 مليار دولار في ديسمبر (كانون الأول).
وتنكمش الاحتياطيات في الآونة الأخيرة بمقدار ملياري دولار شهريا، ولذلك فإن الثلاثة مليارات دولار لن تعوض إلا ستة أسابيع من التراجع، وستغطي قيمة واردات السلع والخدمات لمدة تقل عن شهر. ويتوقع صايم علي أن تحتاج مصر نحو 20 مليار دولار من التمويل الخارجي على المدى الطويل حتى يستقر ميزان المدفوعات. وهذا يشير إلى أن صندوق النقد قد يضطر في النهاية لإمداد مصر بمساعدة أكثر بكثير مما كان متصورا في البداية، وأن المساهمات من مانحين آخرين ستكون مهمة.
وتلقت مصر تعهدات مبدئية بمساعدات تتجاوز قيمتها الإجمالية عشرة مليارات دولار من قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى، لكن التدفق الفعلي للمساعدات بطيء، وهو ما قد يعكس توترات دبلوماسية بشأن محاكمة مبارك. لذلك لا يزال الاقتصاديون يتوقعون هبوط الجنيه المصري تدريجيا خلال الأشهر المقبلة. ويتوقع «ستاندرد تشارترد» أن يصل سعر الجنيه الذي هو قريب حاليا من أدنى مستوياته في سبع سنوات عند 6.03 جنيه للدولار إلى 6.3 جنيه بحلول يونيو هذا العام. وقال علي إنه قد يصل إلى سبعة جنيهات أو 7.5 جنيه بحلول منتصف العام، وربما يقترب من ثمانية جنيهات بنهاية 2012 إذا لم يمض التحول السياسي بسلاسة. وقالت علياء مبيض إن الجنيه قد يصل إلى نحو 6.5 جنيه للدولار بحلول يونيو، وإلى سبعة جنيهات بحلول سبتمبر (أيلول).
لكن الاستثمار لم يتلاش تماما في مصر.. ففي القاهرة تستمر التجديدات في فندق «النيل ريتز كارلتون» الذي يقع بالقرب من مقر الحزب الوطني المنحل (حزب مبارك) الذي أضرمت فيه النيران في انتفاضة العام الماضي. وتنشيط السياحة مهم لتعزيز الاحتياطيات الأجنبية. وقال بنك الاستثمار «أرقام كابيتال» ومقره دبي هذا الشهر إنه استحوذ على شركة «الرشاد» للوساطة المالية المصرية. لكن في ظل توقعات بهبوط العملة وحالة عدم اليقين السياسي لا تزال هناك عوائق كبيرة للمستثمرين المحليين والأجانب.