«السبرتاية».. صديقة الجدات تستعيد مكانتها في منازل الحفيدات

يفضلها عشاق القهوة.. ويقبل عليها السياح كقطعة ديكور تراثية

«السبرتاية».. سلعة عملية وتحفة تراثية عادت لتذكير المصريين بقيمتها («الشرق الأوسط»)
TT

«مفيش أحسن من قهوة السبرتاية».. عبارة تتردد بين المصريين، خاصة عشاق شرب القهوة، الذين ما زالوا يفضلون احتساء القهوة المعدة على لهب «السبرتاية» الحنون، ورائحتها، بينما يوصف من يفضل إعدادها بهذه الطريقة بأنه «صاحب مزاج عال» لدأبه على طقوس تحضير فنجان قهوة «معتبر» بنفسه.

«السبرتاية» موقد صغير مصنوع من النحاس الأصفر تشعل ناره بالسبرتو الأحمر، وتكون ذات عين واحدة يصدر عنها لهب أزرق. وهي تستخدم في الغالب لصنع القهوة في المنازل، وكانت تستخدمها الجدات والأمهات من ربات المنازل في الماضي، إذ يضعنها أمامهن في غرفة المعيشة وسط «عدة القهوة»، حيث لا بد أن تلازمها الفناجين وعلبة البن و«الكنكة» (الغلاية في بلاد الشام) وعلبة الكبريت (عيدان الثقاب)، وذلك لصنع القهوة لأنفسهن على مدار اليوم، أو لجيرانهن وضيوفهن أثناء جلساتهن الصباحية، فـ«القعدة الحلوة» وحواديت الجدات لا تكتمل من دون رائحة السبرتو النفاذة.

ولم تغفل القصص والروايات الأدبية «السبرتاية»، فكانت تستخدم في الغالب بصورة رمزية للتعبير عن المشاعر الدافئة للأبطال أو الحنين للذكريات. ولقد أسهب كثيرون من الأدباء في وصف مشاهد إشعال «السبرتاية» أو إطفائها ووضع «الكنكة» عليها أو رفعها، أو في وقوف الأبطال أمام لهيبها المتراقص وهم يعدون القهوة. وقبل سنتين ظهرت مجموعة قصصية بعنوان «دفا السبرتاية» للكاتب أحمد المصري، حيث يستعيض أب وأم عن جحود أولادهما بإعداد فناجين القهوة دائما على «السبرتاية» لينعما بدفء لم يجداه في الأولاد.

وفي أفلام «الأبيض والأسود» في السينما المصرية، غالبا ما كانت «السبرتاية» تظهر كأداة أساسية تستخدمها الأسر في حياتها اليومية، حين كان مشهد صب القهوة من جانب البطل أو البطلة بين المشاهد الأبرز التي لم تغفلها السينما، وكثيرا ما ظهرت فنانات مثل ماري منيب وفردوس محمد وزينات صدقي في أفلامهن وهن يعددن القهوة على «السبرتاية».

بل إن كثرة من الفنانين، قديما وحديثا، عبروا عن شغفهم بـ«السبرتاية»، منهم الفنانة الراحلة أمينة رزق، التي كانت شغوفة بإعداد القهوة بنفسها، وتعشق طقوس تحضير القهوة عبر «السبرتاية». كذلك قالت المطربة ليلى غفران إنها تبحث دائما في يومها عن لحظات «السلطنة» والاستمتاع، وهي اللحظات التي تجدها حينما تقوم بإعداد قهوتها الخاصة بنفسها على «السبرتاية».

في الماضي حين كانت تغيب مواقد الغاز، كانت «السبرتاية» أداة ضرورية ضمن الأدوات المنزلية في جهاز كل عروس مصرية تتحضر للزواج، إلى جانب الأواني النحاسية الأخرى في عصرها الذهبي وقت كانت من أعرق الصناعات. وحتى اليوم ما زالت كثيرات يحرصن على شراء «السبرتاية»، ولكن كتراث يحافظن عليه بعدما اندثر النحاس ولم يتبق منه سوى «السبرتاية»، أو لأنهن مغرمات بطقوس إعداد القهوة على نار هادئة.

تصنع «السبرتاية» إلى اليوم في ورش تصنيع النحاس بمنطقة النحاسين في حي الجمالية بالقاهرة، وتباع لدى تجار الأدوات المنزلية، ويكثر وجودها في ميدان العتبة وأسواق «الموسكي» و«حارة اليهود».

ويقول أحد تجار الأدوات المنزلية لـ«الشرق الأوسط»: «ما زال البعض يفضل (السبرتاية) حتى اليوم. ومع أن سعرها بالنسبة لحجمها الصغير يعد مرتفعا بعض الشيء، نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار النحاس في مصر عاما بعد عام، إلى جانب السبرتو المخصص لإشعالها، فإن كثيرين يميلون إلى اقتنائها. وحاليا تتراوح أسعارها بشكل عام بين 35 و80 جنيها، واللافت أن عرائس كثيرات، خاصة ممن ينتمين إلى الطبقات المتوسطة، يحرصن على شرائها، وهناك ربات المنازل من جميع المستويات الاجتماعية أيضا يفضلن في الغالب إعداد القهوة على (السبرتاية)».

من ناحية ثانية، خلال السنوات الأخيرة، أخذت «السبرتاية» بعدا جماليا فكثر استخدامها كقطعة ديكور في المنازل. وكونها مصنوعة من النحاس أتاح ذلك تطويرها بإضافة النقوش عليها عبر فنيي الحفر والنقش اليدوي، بوضع رسوم جميلة وتصاميم زخرفية عليها.. وهو ما يجد إقبالا من جانب السياح الأجانب والعرب الزائرين لأسواق خان الخليلي والحسين والأزهر.

وحول هذا الموضوع يقول بيومي النقاش، أحد المتخصصين في مشغولات الحفر على النحاس ومن بينها «السبرتاية»، إنه في ورشته في حي الجمالية اختار العمل على «السبرتاية» وتحديث شكلها التقليدي المعروف، شارحا لـ«الشرق الأوسط» أنه يبدأ عمله بعد أن يجلب «السبرتاية» من ورش تصنيعها، حيث يكون جسمها أملس، ومن ثم يقوم بتطويعه بإضافة بعض الجماليات عليه، وهنا يكون أمام خيارين، هما حفر النقوش الغائرة (العميقة) أو جعل النقش بارزا. ويضيف «هذه النقوش تتنوع بين رموز فرعونية أو قبطية أو إسلامية، أو مستلهمة من البيئة وبألوان مختلفة، وذلك لكي تتلاءم وجميع الأذواق في مصر أو خارجها». ويتابع «يمكن أيضا إدخال بعض التطوير على شكل (السبرتاية) نفسها، مثل إضافة يد لها لسهولة حملها، وقد تكون اليد من النحاس أو تغطى بالخشب، وهكذا تكون ملبية لجميع الرغبات وأكثر جمالا».

ويوضح النقاش أن إنتاجه تشتريه «البازارات»، خاصة في سوق خان الخليلي، وأيضا يشتريه السياح والفنادق ورجال الأعمال، مشيرا إلى أنه سافر أيضا حاملا إنتاجه للمشاركة في معارض متنقلة بين دول أوروبا خلال السنوات الماضية، بينها إيطاليا وإسبانيا، حيث عرض إنتاجه من المشغولات اليدوية. وفي رأيه أن «(السبرتاية) تلاقي إقبالا كبيرا من جانب زوار معارضه لأنها تراثية، ويكون استخدامها في الغالب للديكور والزينة في المنازل أو الفنادق».

ولكن خلال الآونة الأخيرة، ولا سيما مع أزمة صعوبة الحصول على أسطوانات الغاز وارتفاع أسعارها بشكل جنوني في مصر، حيث تخطت حاجز الـ50 جنيها (نحو 9 دولارات) أو أكثر في السوق السوداء، عادت «السبرتاية» لتفرض نفسها من جديد في كثير من المنازل المصرية.

وهنا تقول وفاء عادل، وهي ربة منزل خمسينية، معلقة «كانت (السبرتاية) حبيسة خزانة مطبخي منذ سنوات طويلة. لكن مع اشتداد أزمة أسطوانات الغاز وما نلاقيه من عناء في الحصول عليها، فكرت في العودة إليها كحل يساعد قليلا في توفير الغاز، حيث أقوم بإعداد أكواب الشاي والقهوة عليها لأفراد أسرتي، إلى جانب استغلالها في تدفئة يدي في برد الشتاء. إنها لا تكلفني الكثير، كما أنها غير مرهقة في الإشعال. استخدام هذه الأدوات القديمة أراه حلا عمليا للتغلب على أزماتنا المتكررة».