مقر الحزب الوطني «المحترق».. مطبخ توريث حكم مصر

تحول إلى مرثية لزمن مبارك على نيل القاهرة.. وما زال يعلوه شعار «من أجلك أنت»

صورة لإحدى المسيرات التي مرت على مدار العام أمام المقر المحترق للحزب الوطني (المنحل) («الشرق الأوسط»)
TT

بواجهته السوداء المحترقة وأسقفه المتهدمة؛ انطفأت إطلالة المقر الرئيسي للحزب الوطني (المنحل) على نيل القاهرة، وتحول إلى شاهد عيان على ثورة 25 يناير في مصر.. فمن زوايا عدة يمكنك مشاهدة هذا المقر الرابض بين ميدان التحرير، قلب الثورة المصرية، وبين مبنى الإذاعة والتلفزيون «ماسبيرو»، والذي أصبح بدوره مسرحا للتظاهرات، خاصة من قبل مسيحيي مصر. وفي غمرة كل هذا ستنسى أن تسأل، وبعد مرور عام على الثورة، لماذا لم يتم إعادة ترميم هذا المبنى واستغلاله؛ خاصة أنه يتاخم المتحف المصري المكتظة خزائنه بقطع الآثار، وكان به المجلس الأعلى للصحافة وعدد من المجالس القومية المتخصصة، والتي انفرط عقدها في أماكن عدة، وكان ثمة خطط ومشاريع أثيرت حول تحويل المبنى لمتحف للثورة أو إلحاقه بالمتحف المصري.

ويقول مراقبون إن احتراق المقر الرئيسي للحزب الوطني يعد أولى علامات سقوط نظام دولة مبارك، فالمبنى العريق لم يكن فقط في السنوات الأخيرة مقرا للحزب الوطني الحاكم، بل أيضا كان مقرا لخطة توريث حكم مصر من مبارك الأب إلى مبارك الابن، وهي الخطة التي زادت من حنق المصريين على مبارك وأسرته بل وكل نظامه.

ويقول مصدر مقرب من أحد أبرز قيادات الحزب الوطني قبل سقوطه، إن خطة تزوير انتخابات مجلس الشعب لعام 2010 وضعت بالتخطيط بين قياداته بهذا المقر في إحدى ليالي أغسطس (آب) 2010 الحارة. ونجحت الخطة، واستحوذ الحزب الوطني على ما يزيد على 95 في المائة من مقاعد برلمان 2010.. لكن مع شتاء 2011، احترقت كل الخطط التي دبرت، باحتراق مقر الحزب الوطني في الساعة السادسة من مساء 28 يناير (كانون الثاني) في العام الماضي.

اللافت أن النيران ظلت تأكل في أساسات المبنى ومحتوياته لثلاثة أيام متصلة دون تدخل من أحد لإطفائه، ويقول مراقبون إن الثوار اعتبروا تصاعد النيران من المبنى علامة على سقوط مبارك، فتركوه يحترق حتى الرماد، فيما تركه نظام مبارك يحترق لتختفي معه كل أسراره.

ويضيف المصدر، الذي عمل لفترة طويلة ضمن طاقم المعاونين السياسيين لذلك الرمز الحزبي، بلهجة ساخرة لـ«الشرق الأوسط»: «شهد المقر التخطيط لكل السياسات التي مهدت للثورة التي أسقطت النظام.. فكان المبنى أول شيء يحترق».

قبل سنوات، كان المقر الرئيسي للحزب الوطني مقرا لتنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي ألغاه الرئيس أنور السادات عام 1976 ليتحول مع إعادة السادات للحياة الحزبية في مصر مقرا للحزب الوطني، كما ألحقت به لاحقا المجالس القومية المتخصصة والمجلس الأعلى للصحافة قبل أن تحترق جميعا في «جمعة الغضب».

وتتكون ساحة المبنى الضخم، من مبنى على يمين المدخل الرئيسي، خصص للمقر الرئيسي للحزب الوطني، وآخر شاهق في واجهة الباب الرئيسي خصص للمجالس القومية المتخصصة والمجلس القومي للمرأة.

وخلال الأعوام القليلة الماضية، كان هناك تضييق كبير على مجرد المرور من أمام المبنى، فيما كان انتظار السيارات جواره ضربا من ضروب المستحيل بسبب الحراس الأشداء القائمين على حمايته، لكن اليوم ومنذ يناير الماضي يقوم أربعة جنود فقط من القوات المسلحة بحراسة المبنى.

رماد وتراب وأحجار، كان هو كل ما شاهدته «الشرق الأوسط» في جولتها داخل المقر المحترق. وهي الجولة التي بدأت بقول أحد الحراس عند أبواب المقر، وهو يمسك بكتاب محترق من مخلفات المبنى: «الكثيرون يحاولون دخول المبنى لمشاهدة ما حدث به».

أما في الداخل فما يمكن رؤيته هو الأرضيات المكسوة بأفخم أنواع البلاط وقد أصبحت مجرد أحجار وأتربة، فيما تحولت أغطية الأرضيات لمجرد أنسجة متهرئة، أما الأسقف فقد تهدمت وخرجت منها الأسلاك الكهربائية التي تدلت للأسفل لتقارب الأرض في مشهد مخيف، أما الحوائط فانصهرت دهاناتها وتحولت للون الأسود، فيما تحول أثاث المبنى لهياكل خشبية يصعب التعرف عليها. لكن نجفة عملاقة في ساحة مبنى الحزب بقيت سليمة رغم استحالة إضاءتها. فيما تراصت هياكل محترقة لسيارات فارهة وأخرى نصف نقل في باحة المبنى، وفي المنتصف تماما خيمة بيضاء عملاقة خصصت لتكون دورات مياه للقائمين على الحملات الانتخابية لمرشحي الوطني في انتخابات البرلمان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 قبل شهرين من احتراق المبنى.

ويعتقد المصريون أن كبار مسؤولي الحزب احتفظوا بتسجيلات ومستندات تدين كل مسؤولي مصر في حجرة سرية في الحزب الوطني ذاع صيتها تحت مسمى «غرفة جهنم». «لكن جهنم أحرقت كل شيء»، وفقا للمجند الذي يحرس المبنى منذ عام. والذي يضيف لـ«الشرق الأوسط» وهو يشير لباب حديدي محكم الإغلاق في الدور السفلي لمبنى الحزب: «هذا الباب الحديدي يمنعنا من النزول للأسفل، لكن يبدو أن كل شيء تفحم فيه».

ويقول كريم النقيب، 31 عاما، مهندس حاسب آلي، وهو يشير من خارج المبنى إلى أحد الأسقف المتهدمة من المبنى: «كنت أتظاهر هنا قبل عام، ولم أر أحدا من المتظاهرين يقترب من المبنى أو يشعل النيران فيه، وفجأة رأيت ألسنة اللهب ترتفع من المبنى.. رجال الحزب الوطني هم من أحرقوه بعد أن أيقنوا سقوطهم، وقبل أن يتمكن المتظاهرون من اقتحامه والحصول على أسرارهم».

ما يجذب أنظار المارين على المقر المحترق؛ أن إعلانا ضخما فوق المقر لا يزال قائما حتى اللحظة، يخرج لسانه للثوار متضمنا عبارة «الحزب الوطني.. من أجلك أنت» التي سخر منها المصريون كثيرا وتلاعب بها بعضهم لفظيا بالقول: «من أكلك أنت» في إشارة إلى عمليات الفساد والنهب التي مارسها أعضاء الحزب. كما لا يزال إعلان آخر يدعو لحملة نظمها الحزب تحت اسم «عطاء الشباب» يحمل شعار «عطاء شبابنا.. خير وبركة لبلدنا»، إلا أن عطاء الشباب الحقيقي جاء في غير مصلحة الحزب في النهاية.