رحيل البابا «شنودة الثالث».. حكيم المسيحيين المصريين

عارض زيارة السادات للقدس ووقف في وجه التدخل الأجنبي

TT

«كنت وحيدا ولم أكن أعرف الطريق، ولكنني كنت أشعر في كل ذلك أن قوة إلهية غير مرئية ستقودني في كل خطوة» ربما تعد هذه الكلمات التي كتبها البابا شنودة، في فبراير (شباط) عام 1951 أصدق تعبير عن شخصيته، فقد خاض عددا من المعارك والصدامات، سواء مع الدولة أو مع رموز كنسية، أو مع أقباط المهجر، إلا أنه استطاع أن يتجاوزها جميعا بأقل الخسائر.

ورغم أن البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية ولد باسم نظير جيد روفائيل، وترهبن باسم أنطونيوس السرياني، فإنه عندما رقي إلى درجة الأسقف ثم بابا، حرص على اختيار اسم «شنودة الثالث»، تيمنا بمن سبقوه من البطاركة في حمل هذا الاسم، وهما الأنبا شنودة الأول، والأنبا شنودة الثاني.

وعارض البابا «شنودة الثالث» زيارة السادات للقدس ومنع «شعبه» من زيارة أماكنهم المقدسة في القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، ووقف في وجه التدخل الأجنبي، بحجة حماية الأقلية المسيحية في البلاد، وكان أول بابا يقيم مآدب إفطار للقيادات الإسلامية في شهر رمضان، ووصف من البعض بأنه حكيم المسيحيين في مصر.

وتميز البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذي توفي مساء أمس عن عمر يناهز 89 عاما بحياة حافلة بالعطاء، وقد ولد البابا شنودة في 3 أغسطس (آب) من عام 1923 باسم «نظير جيد روفائيل»، وهو البابا رقم 117 للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك في قرية سلام بمنفلوط. وانتقل إلى مدينة دمنهور شمال غربي القاهرة، ودرس في مدرسة الأقباط الابتدائية ثم درس بمدرسة الأميركان ببنها، وانتقل مع أسرته إلى القاهرة وسكن في حي شبرا حيث درس بمدرسة الإيمان، ونال إعجاب معلميه لتفوقه ودماثة خلقه.

وبعد حصوله على الشهادة الثانوية، التحق بكلية الآداب قسم التاريخ بجامعة القاهرة، وحصل على الليسانس بتقدير (ممتاز) عام 1947. كما التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1948 وكان الأول على دفعته. وكان قبل تخرجه من كلية الآداب قد التحق بالكلية الإكليركية، وتخرج فيها عام 1949 بتقدير (ممتاز) وكان الأول على دفعته.

والبابا شنودة هو رابع أسقف أو مطران يصبح البابا، بعد البابا يوحنا التاسع عشر (1928 - 1942) ومكاريوس الثالث (1942 - 1944) ويوساب الثاني (1946 - 1956)، كما أنه يعد أول أسقف للتعليم المسيحي قبل أن يصبح البابا.

وللبابا شنودة الثالث تاريخ حافل بالصعود للمناصب الدينية بالكنيسة، ففور تخرجه خدم بمدارس الأحد في أماكن كثيرة، خاصة بكنيسة القديس الأنبا أنطونيوس بشبرا، وكنيسة القديسة مريم بمسرة، وجمعية النهضة الروحية في حي شبرا، واختير مديرا لتحرير مجلة «مدارس الأحد».

ورسم شنودة أسقفا لدير السريان عام 1954. وكان عمره وقت رهبنته 31 عاما، ثم رسم قسا عام 1958، ورسم أسقفا للمعاهد الدينية والتربية الكنسية، وكان أول أسقف للتعليم المسيحي وعميد الكلية الأكليريكية، وذلك في عام 1962. إلى أن انتخب البابا شنودة الثالث للجلوس على كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1971 وبذلك أصبح البابا رقم (117) في تاريخ البطاركة.

وفي عهده تمت سيامة أكثر من 100 أسقف وأسقف عام؛ بما في ذلك أول أسقف للشباب، وأكثر من 400 كاهن وعدد غير محدود من الشمامسة في القاهرة والإسكندرية وكنائس المهجر، وأولى اهتماما خاصا لخدمة المرأة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

والبابا شنودة الثالث هو أول بابا يقيم حفلات إفطار رمضانية لكبار المسؤولين بالدولة منذ عام 1986 بالمقر البابوي وتبعته في ذلك معظم الأبرشيات. وهو أول بابا يحضر حفلات إفطار رمضانية تقيمها وزارة الأوقاف ويشارك بنفسه في جميع المؤتمرات والأحداث الهامة بالدولة.

كان أول صدام له مع السلطة في سبعينات القرن الماضي، مع رفضه لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وأكد البابا ذلك بأن قرر عدم الذهاب مع الرئيس الراحل أنور السادات في زيارته إلى إسرائيل عام 1977.

وعندما قام الرئيس السادات بزيارة إلى أميركا فيما بعد نظم الأقباط هناك مظاهرة مناهضة له رفعوا فيها لافتات تصف ما يحدث للأقباط في مصر بأنه اضطهاد، وظن السادات بأن البابا يتحداه، فكانت أن أصدرت أجهزة الأمن قرارا للبابا بأن يتوقف عن إلقاء درسه الأسبوعي، الأمر الذي رفضه البابا، ثم قرر تصعيد الأمر بأن أصدر قرارا بدوره بعدم الاحتفال بالعيد في الكنيسة وعدم استقبال المسؤولين الرسميين الذين يوفدون من قبل الدولة عادة للتهنئة.

ووصل الأمر إلى ذروته عندما كتب في رسالته التي طافت بكل الكنائس قبيل الاحتفال بالعيد أن هذه القرارات جاءت «احتجاجا على اضطهاد الأقباط في مصر»، وكانت هذه المرة الوحيدة التي يقر فيه البابا علانية بوجود اضطهاد للأقباط في مصر ولم يفعلها بعد ذلك مطلقا. وعندما أصدر الرئيس السادات في سبتمبر (أيلول) عام 1981 قراره بالتحفظ على 1531 من الشخصيات العامة المعارضة، لم يكن مصير البابا الاعتقال، وإنما كان تحديد الإقامة في الدير بوادي النطرون.

وظلت علاقته بالرئيس السابق حسني مبارك وقيادات المؤسسات الدينية الإسلامية في مصر طيبة، مع استثناءات طفيفة توترت فيها العلاقة بين الجانبين على خلفية أزمات سببها تعقيد إجراءات بناء وترميم الكنائس في البلاد. واشتهر البابا شنودة بالوقوف ضد دعوات البعض من أقباط المهجر للتدخل الدولي في شؤون مصر، وعارض الحج إلى القدس في ظل وجود الاحتلال الإسرائيلي. وحتى أيامه الأخيرة، لم يكن البابا شنودة مجرد بطريرك لمسيحيي مصر مثله مثل البطاركة الذين سبقوه وأثروا في الحياة السياسية والدينية في البلاد، فقد خرج من نطاق التأثير على مسيحيي مصر ليمتد إلى جموع المصريين بل والعرب، حتى أن البعض أطلق عليه «بابا العرب» لاهتمامه بالشؤون العربية والمساعدة على حلها والخوض في مسائل سياسية شائكة، وحصل بسبب نشاطه الدولي على عدة جوائز عالمية في مجال التسامح والحوار، منها جائزة اليونيسكو للحوار والتسامح الديني، وجائزة الأمم المتحدة للتسامح الديني، وجائزة القذافي لحقوق الإنسان.

وفي حوار سابق مع «الشرق الأوسط» روى البابا شنودة عن أنه عند ميلاده لم يستخرج له أهله شهادة ميلاد، وحين حان موعد دخوله المدرسة، ذهبوا به إلى طبيب لإعطائه شهادة تسنين، فقال للطبيب وهو طفل لا يتجاوز السادسة من عمره: «يا دكتور ممكن الإنسان يتولد بعد وفاة أبوه خلال فترة حمل أمه، لكن من الصعب أن يولد طفل بعد وفاة أمه»، فسأله الطبيب «قصدك إيه؟»، فأجابه شنودة: «أمي ماتت بعد ولادتي بأسبوعين فلا تكتب تاريخ ولادتي بعد تاريخ وفاتها».

وعقب البابا الراحل على تلك الواقعة قائلا: «كنت شقي جدا ومشاكس في طفولتي». وكان البابا يحب الكتابة، وخاصة كتابة القصائد الشعرية، ولقد كان، ولعدة سنوات، محررا ثم رئيسا للتحرير في مجلة «مدارس الأحد» وحصل على عضوية نقابة الصحافيين المصرية، وظل محتفظا بها حتى وفاته، وفي الوقت نفسه كان يتابع دراساته العليا في علم الآثار القديمة، وكان من الأشخاص النشيطين في الكنيسة، وكان خادما في مدارس الأحد، ثم ضباطا برتبة ملازم بالجيش، وشارك في حرب 1948 في الفرق الطبية للجيش.

وكان شنودة خادما بجمعية النهضة الروحية التابعة لكنيسة العذراء، ومريم بمسرة شمال القاهرة، وطالبا بمدارس الأحد، ثم خادما بكنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا في منتصف الأربعينات.

ولعل نقطة التحول التي أدت إلى سوء العلاقة بين البابا الراحل والسادات هي أحداث الخانكة الطائفية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1972 التي كانت أول مرة تعرف فيها مصر معنى مصطلح الفتنة الطائفية، والتي أدت إلى احتراق كنيسة مبنية دون ترخيص، مما أسفر عن أحداث عنف طائفية بين المسيحيين والمسلمين، وبدأ البابا صياما شاركه فيه الأقباط الأرثوذكس في مصر إلى أن تحل الأزمة، الأمر الذي اعتبره السادات تصعيدا وتحديا له، رغم إعلان البابا أكثر من مرة أن الصوم «عبادة» وليس «سياسة». وانتقد شنودة الرئيس السادات في جلساته الكنسية في الكاتدرائية بل وأمام السادات نفسه بسبب تقربه من الإسلاميين في وقت من الأوقات، وحذره من التعامل كخصم في الخلافات مع الأطراف، ودعاه إلى أن يكون دائما حكما بين المسيحيين والمسلمين، وليس خصما ضد المسيحيين. وعلى عكس السادات، تميزت علاقة البابا شنودة بالرئيس السابق حسني مبارك بأنها جيدة، وفي أحيان أخرى جيدة للغاية، وهي العلاقة التي أدت إلى مرور الكثير من الأحداث الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر بأقل خسائر ممكنة.

كثيرا ما يمتدح البابا شنودة الرئيس السابق مبارك ويصفه بالحكيم، بل دائما ما كان يبايعه في الاستفتاءات، ويقدم له وثيقة تأييد ومبايعة من المجلس الملي، وحين تغير نظام اختيار رئيس الجمهورية إلى نظام الانتخاب المباشر ساند البابا شنودة الرئيس مبارك ودعا أتباع الكنيسة لانتخابه، مما أثار ضده المثقفين من المسلمين والمسيحيين، الذين اعتبروا أن هذه الدعوة نوع من تسييس الدين، وخلط بين دور الكنيسة الديني وحق الشعب القبطي في الاختيار السياسي، فيما أيد البعض الآخر دعوة البابا باعتباره أكثر حكمة، وهو الذي يعرف ما قد لا يعرفونه، وربما يحصل المسيحيون على مكاسب سياسية أخرى مقابل هذه المساندة. وكان آخر ظهور رسمي للبابا شنودة في السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي عندما رأس قداس عيد الميلاد، الذي حضره وفد من المجلس العسكري برئاسة الفريق سامي عنان رئيس الأركان نائب رئيس المجلس العسكري، وكانت المرة الأولى التي يحضر فيها مسؤول رفيع، يعتبر الرجل الثاني في الدولة، القداس بعد ثورة يناير، كما حضر وفد من جماعة الإخوان المسلمين لأول مرة أيضا في تاريخ الكنيسة، وكان لافتا حالة التعب التي يمر بها البابا شنودة حتى أنه صافح ضيوفه وهو جالس.

ومن أكثر المواقف التي قربت منه المسلمين والمعتدلين الأقباط على حد سواء رفضه للدعوة التي أطلقها بعض الأقباط في 16 فبراير عام 1989 ودعوا فيها لإنشاء حزب يسمى «حزب السلام الاجتماعي وصيانة الوحدة الوطنية» حيث يرفض دائما قيام الأحزاب على أساس ديني.