معرض يعيد سارة برنار إلى ما كانت عليه أجواؤها في باريس

بيير كاردان أمضى 60 عاما يجمع مقتنيات سيدة المسرح الفرنسي من المزادات

TT

في الطوابق العلوية للمطعم الشهير «مكسيم» في باريس، يقام معرض فريد من نوعه بعنوان «أنا.. سارة برنار». المطعم الذي يملكه مصمم الأزياء الإيطالي المولد، الفرنسي الجنسية بيير كاردان، يقع في مبنى قديم وتراثي من القرن التاسع عشر. وهو قد حقق حلما راوده طويلا عندما نجح في تحويل الطوابق الخمسة للمبنى إلى أماكن مؤثثة على الطراز التي كانت فيه البيوت الباريسية المترفة قبل قرن من الزمان.

لم يعد الرقم المعروف لأهل النخبة من العالم أجمع، في جادة «لا بيه» وسط العاصمة، على بعد خطوات من ساحة «الكونكورد» و«الشانزلزيه»، مجرد عنوان لمطعم فخم وحميم بل تحول الطابق الأول منه إلى مسرح ذي خشب قديم وستائر أثرية وكراسي مغطاة بالقطيفة النبيذية الفاخرة. أما الطابق الثاني فقد جعل منه جناحا رائعا على طريقة أجنحة القصور الفرنسية في القرن الثامن عشر. وفي أوائل القرن الماضي، كانت هذه الصالات تستخدم كمقصورات خاصة لبعض زبائن المطعم ممن ينشدون الهدوء والسرية والعزلة عن بقية الرواد.

خصص كاردان الطابقين الثالث والرابع كمتحف لعرض مجموعته الخاصة من المقتنيات العائدة لما يسمى بالفن الجديد (آر نوفو). إن تلك القطع النادرة من الأثاث والمرايا والثريات والأواني الخزفية هي شغفه الحقيقي. وهو قد جمع كل ما تمكنت يداه من الوصول إليه في المزادات والمعارض من فنون تزيينية تعود إلى الفترة الممتدة ما بين 1890 و1905. كما أنه عندما اشترى مطعم «مكسيم» بناء على طلب خاص من مالكه السابق فإن الهدف كان المحافظة على الطابع التراثي للمكان.

وطوال السنوات الستين الماضية، كان كاردان الذي يبلغ هذا العام التسعين من العمر، يطوف في معارض الأنتيكة باحثا عن بقايا ممثلته المفضلة سارة برنار (1844 - 1923) التي قد ماتت وهو في عامه الأول ولم يلتق بها أو يرها على المسرح لكنه نشأ وصيتها يملأ فرنسا وشهرتها تعم أوروبا والعالم. وبفضل دأبه وما يملكه من ثروة تتيح له اقتناء ما يشاء، تمكن من الحصول على طاولاتها وسريرها ومجوهراتها وأمشاطها ومراياها وطاولات طعامها وكتاباتها وكتبها ولوحاتها وصورها التي احتفظت بها أو التي رسمها لها فنانو زمانها ومصوروه، بالإضافة إلى بعض من فساتينها وقبعاتها أو ثيابها على المسرح.

اليوم، يمكن للزائر أن يشتري تذكرة دخول ويصعد إلى الطابقين العلويين ليتفرج على نسخة شبه الأصل من حجرات شقة الممثلة المسرحية الأسطورية سارة برنار. إن هناك زيارات يومية منظمة للمكان، تبدأ بالجلوس في بهو سفلي ذي إنارة حمراء، يماثل في أجوائه غرف المحظيات والغواني، قبل الصعود برفقة الدليلة إلى المعرض الذي يجمع قطعا يصعب أن تجتمع في مناسبة أخرى، خصوصا إذا غاب صاحبها عن الحياة وتفرقت، من جديد، في المزادات، طالما أنه لم يتزوج أو ينجب ولدا.

قامت سارة برنار بخمس جولات فنية حول العالم، اعتبارا من عام 1880، وكانت تقف على المسارح في الولايات المتحدة الأميركية وتؤدي دور «غادة الكاميليا» أمام رعاة بقر لا يفهمون كلمة مما تقول لكنهم ينفعلون بأدائها ويذرفون الدموع وهم يشاهدونها في الفصل الأخير، تشرف على الموت. ولأنها كانت تحب الحيوانات واقتنت أسدا ونمرين صغيرين، فإنها جاءت من أميركا ومعها حيوان خدرته ونقلته معها في الباخرة، ولما وصلت به إلى شقتها في شارع «بيرير» بباريس أفاق من التخدير والتهم قطتها.

كانت برنار تندمج في أدوارها وتنفذ كل ما يطلبه المخرج منها. وكان عليها، في نهاية إحدى المسرحيات، أن ترمي بنفسها في حفرة وسط المسرح، حيث توضع وسائد للتخفيف من الصدمة. لكنها لم تجد الوسائد في مكانها، ذات يوم، ومع هذا ألقت بنفسها في الحفرة انسجاما مع حسها المهني، غير عابئة بمخاطر سقطتها على الأرض الصلبة.

في أميركا كتب النقاد، في ما بعد، أن سارة برنار اخترعت هوليوود قبل الأوان. فقد كانت فرقتها تجمع 150 فنانا على المسرح مع ديكورات وملابس فخمة وبإخراج باذخ. وبفضل موهبتها عشقها العديد من مشاهير زمانها وأطلق عليها الشاعر والفنان جان كوكتو لقب «الوحش المقدس»، وهو مصطلح بات شائعا في اللغة الفرنسية لتوصيف الشخصيات الاستثنائية.

سارة برنار، الممثلة التي ما زال مسرحها يحمل اسمها حتى اليوم في ساحة «الشاتليه» في باريس، رتبت ميتتها بالشغف نفسه الذي بنت به حياتها. وكانت حكمتها طوال مسيرتها تقوم على تجاهل الإحباط وتجاوز الفشل والنهوض مجددا والمضي إلى الأمام وهي تردد عبارتها الشهيرة «رغم كل شيء.. ». ويوم سئلت عن سقوطها في حفرة المسرح ردت ببساطة: «نظرت في الهاوية فلم أجد الوسائد هناك، ورغم كل شيء.. قفزت».

يذكر أن سارة برنار لم تكن موهوبة في التمثيل فحسب، بل كانت نحّاتة جيدة وتركت منحوتات تمثل أسماك القرش، واعترف النحات الكبير رودان بموهبتها.