بيغوم زينت محل آخر إمبراطورات المغول في دلهي

قوية ومسيطرة وعنيدة ومتصلبة في رأيها

الإمبراطورة عاشت آخر حياتها منفية برانغون في بورما
TT

لن يصدق كثيرون أنه في المدينة المسوَّرة القديمة بالعاصمة الهندية دلهي، وسط الوحل والقذارة والازدحام المروري، يقف قصر بيغوم زينت محل، آخر إمبراطورات المغول، الذي أصبح أثرا، حيث لم يتبق من القصر الريفي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر سوى المقصورات المقوسة والحائط الخارجي.

وقد كان القصر، طبقا للكاتب الفارسي بشير الدين أحمد، يغطي مساحة أربعة فدادين وقت أن كانت زينت محل تقيم به، وكان القصر مليئا بمختلف مظاهر الترف ومزخرفا بالصور الزيتية الجدارية وغيرها من الأشياء الثمينة التي وضعت هناك لإسعاد الملكة.

وكان القصر يضم أيضا نافورة رخامية ضخمة تحيط بها بضع حجرات، وكذلك قبو ضخم وقصر للمجوهرات، وبداخله كانت توجد مقصورة منعزلة بها أربعة عشر قوسا ومساحة فارغة، كتلك التي كانت توجد عادة في أي قصر ريفي.

وكانت المقصورة، المبنية على نفس شكل تلك الموجودة في «الحصن الأحمر»، محاطة بأفنية رخامية من جميع الجهات، وكانت أشجار التين البنغالي الضخمة تعطي ظلالا مبهجة في الصيف، حيث كانت تحاط بستائر من الخوص المعطر لمنع دخول الحرارة والهواء الساخن، أيضا كان يوجد نفقان يمتدان من هذا القصر، أحدهما يذهب إلى «الحصن الأحمر» والآخر إلى مكان غير معلوم.

ولا تعتبر فكرة بناء قصر فخم بالكامل سنة 1846 وإهدائه لها مفاجأة، حيث إن زينت محل كانت الزوجة الأثيرة لدى بهادر شاه ظفر، الذي أصبح آخر أباطرة المغول.

وقد جاءت الملكة المحبوبة لإمبراطور المغول الأخير، بهادر شاه ظفر، الذي كان تقريبا في عمر جدها، إلى «الحصن الأحمر»، مقر إقامة أباطرة المغول في دلهي القديمة، في استقبال هائل بالأبواق، رغم أنها لم تكن ذات حسب ونسب. وقد اكتسبت نفوذا كبيرا خلال فترة وجيزة بفضل جمالها وبراعتها في مكائد البلاط، وكان الإمبراطور شغوفا بها ويحرص على تلبية جميع رغباتها.

وكانت بيغوم زينت محل امرأة قوية ومسيطرة وعنيدة بطبعها، وكانت متصلبة في رأيها مثل الحجارة. وإلى جانب هذا، فقد كانت جميلة وعيونها تشبه عيون المها، وكان عمرها يراوح نصف عمر الإمبراطور بهادر شاه ظفر، الذي فقد قوته وسلطته في فترة شهدت اضطرابات هائلة.

وقد لعبت الإمبراطورة دورا كبيرا أثناء التمرد الذي قام به الجنود الهنود الذين كانوا يخدمون في الكتائب التابعة لشركة الهند الشرقية البريطانية سنة 57 - 1858 ضد حكامهم البريطانيين، فيما وصف بأنه أولى حروب الاستقلال في الهند، حين أمرت الملكة النبيلة المدافعة عن حرية وطنها بفتح أبواب «الحصن الأحمر» أمام الجنود المتمردين صبيحة يوم 11 مايو (أيار) 1857، بسبب كراهيتها الشديدة لهؤلاء الإنجليز الجشعين الذين كانوا يحتلون الهند. وكانت أهم الصفات التي تميزها الجمال والذكاء والشجاعة.

ويقول المؤرخون إن الإمبراطورة، بما كانت تتمتع به من قوة، لم يكن يعجبها تطفل الإمبراطورية البريطانية على شؤون الدولة، التي اختزلت إلى مجرد ولاية تابعة. وتعاونت زينت محل في البداية مع نبلاء من أمثال حكيم أحسن الله خان، الذي اشتهر باسم غانغارام اليهودي (وهو اسم أطلقه عليه أعداؤه)، ولكنها فضلت لاحقا أن تعمل بمفردها بعد أن ارتابت في أن يكون طبيب الملك جاسوسا لبريطانيا. وقد غضبت ذات مرة من ميتكاف الذي كان يتدخل دون سبب في تسيير شؤون القصر، وربما تكون زينت محل قد تعاملت مع الرجل بطريقتها الخاصة، حيث مات بعدها في ظروف غامضة. غير أن التمرد فشل وسقطت دلهي في يد البريطانيين، وبطبيعة الحال انتقم البريطانيون من ظفر، الذي دفع ثمنا باهظا لمناصرته أول حرب استقلال هندية، حيث لم تؤد هذه الحرب إلى ضياع إمبراطوريته فحسب، بل فقد فيها أبناءه وأبناء عمومته أيضا، وتم نفيه إلى رانغون، عاصمة بورما (الاسم القديم لميانمار)، وكانت زينت محل قد أنجبت منه ابنا، هو الأمير جوان بخت، وظلت ملازمة لزوجها طوال الوقت.

وقد بذل بهادر شاه ظفر كل ما في وسعه كي يضمن عدم تعرض زينت محل والأمير جوان بخت لمعاملة سيئة بعد وفاته، وطمأنه الإنجليز إلى أنهم سيعتنون بهما، ولكن نتيجة الأحداث الفظيعة التي وقعت إثر حرب الاستقلال الأولى، لم تنفذ أي من تلك التعهدات، وماتت زينت محل وابنها ودفنا في بورما. وهكذا، فإن آخر ملوك دلهي دفن هو وزوجته وابنه بعيدا عن أرض أجدادهم، المغول الكبار.

وقد كان جمال زينت محل الفاتن وحيويتها هما ما دفع الشيخ الأشيب ظفر إلى الاتجاه للشعر الرومانسي، فهو من كتب القصيدة الغزلية التي يقول مطلعها: «من ذا الذي سرق السكينة من قلبي؟ لم يكن البال مشغولا هكذا من قبل».

ويقال إن زينت محل اعتادت أن تتجول وهي تجلس داخل هودجها بينما يحيط بها قارعو الطبول، وكان ينادي المنادي معلنا قدومها حتى يتجمع الأهالي لتحيتها والترحاب بها. ومن أروع ما تبقى من هذا القصر غرفتا استقبال مبنيتان من الحجر الرملي الأحمر.

وتكفي نظرة خاطفة على القصر حتى يخالج الإنسان إحساس بالحنين للماضي، فالبوابة مصنوعة من الحجر الرملي الأحمر، وتتكون من قوس تقليدي من الطراز المغولي يحيط ببابين خشبيين ضخمين مزينين بقطع حديدية.

صحيح أنه قد لا يكون هناك الكثير مما تبقى من هذا الأثر، الذي لم يحظ بالحماية الكافية، لكنه مع ذلك تمكن من الاحتفاظ بسحره المعماري. وتوجد أعلى القصر لوحة تذكارية باللغة الفارسية، تذكر أن الإمبراطور بهادر شاه ظفر شرع في بناء هذا الصرح الهائل من أجل زوجته الملكة. غير أن فخامة الماضي لم تعد موجودة اليوم، حيث أصبح القصر ظلا مما كان عليه في السابق، وأصبح في حالة يرثى لها، ويسوء يوما بعد يوم. ويزعم الأهالي الذين يعيشون بالقرب من القصر أنه مسكون بأرواح الجنود الذين سجنهم الجيش البريطاني فيه سنة 57 - 1858 وألقيت جثثهم في بئر بساحة القصر. ومن الواضح فعلا أن البئر مسكونة، فلو تحدث صوت الماضي من أعماقها، لقص علينا كثيرا من القصص والحكايات.