مشروع «القراءة للجميع» في مصر.. ومضة في ضباب المشهد

نجح في توصيل الكتاب لبيوت البسطاء لكن طالته يد الفساد

جانب من معرض القاهرة الدولي للكتاب
TT

مع مطلع تسعينات القرن الماضي، جاء مشروع «القراءة للجميع»، إحدى أهم المبادرات الثقافية والاجتماعية في تاريخ مصر الحديث، مستهدفا نشر القراءة وتنمية الفكر والثقافة بين قطاعات المجتمع المصري كافة. وأسهم في نجاح المشروع الرعاية الخاصة له من زوجة الرئيس المصري السابق، صاحبة فكرة المشروع وداعمة مسيرته على مدار 20 عاما، وذلك من أجل تنمية الشعور بأهمية القراءة وحب الكتاب، وتشجيع الأسرة على تنمية عادة القراءة لدى أطفالها، ومشاركتهم متعتها، إلى جانب ربط الأطفال بالمكتبة والكتب عن طريق العديد من البرامج والوسائل الترفيهية والتعليمية، وتشجيعهم على ارتياد المكتبات، وتوفير الخدمات المكتبية في كل مكان على أرض مصر، وجعل الكتب متاحة أمام غالبية الأطفال، إلى جانب نشر الوعي بمصادر المعرفة الحديثة وتزويد المكتبات بأجهزة الحاسب الآلي وربطها بشبكة الإنترنت، وتعليم اللغات الأجنبية ضمن فعاليات المهرجان.

وفي عام 1994، بدأ المهرجان يدخل مرحلة جديدة، حيث لم يعد مقصورا على الأطفال فحسب، بل حمل شعار «للطفل.. للشباب.. للأسرة». وفي هذا العام اتخذت اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع، التي كانت ترأسها سوزان مبارك، قرارا بأن تكون هناك إضافة جديدة وبالغة الأهمية للمهرجان، وذلك بالقيام بأضخم مشروع لنشر روائع الأدب العربي من أعمال إبداعية وفكرية، وأيضا الأعمال التي شكلت مسيرة الحضارة الإنسانية، وهذه الإضافة تمثلت في مشروع «مكتبة الأسرة»، على أن تباع هذه الكتب بأسعار رمزية للغاية تناسب دخل الفرد المصري.

وقد صدرت عن مكتبة الأسرة عشرات الملايين من الكتب تحمل أكثر من 1500 عنوان في مختلف فروع العلم، من أهمها «موسوعة مصر القديمة» في 18 جزءا، و«قصة الحضارة» في 21 جزءا، وموسوعة «وصف مصر» في 28 جزءا، والأعمال الكاملة لكثير من الأدباء والمبدعين، بالإضافة إلى آلاف العناوين الأخرى في فروع المعرفة كافة. ونظرا لما حققه المهرجان من نجاح، فقد أشادت به منظمة اليونيسكو كتجربة ثقافية رائدة، ونادت بتعميمه على مستوى العالم، مما حفز عددا من الدول على تبني فكرة المشروع، وبدأت التجربة المصرية تعرف طريقها إلى التعميم في كثير من الدول.

وقد كان مشروع «القراءة للجميع» يحمل في كل عام شعارا مختلفا، وتبنى رؤية جديدة، وعمل على نشر الكتب التي تدعم هذا التوجه، إلى جانب إصدارات أخرى. وتوالت التطورات على المشروع، ومع بداية العقد الثاني لمهرجان القراءة للجميع جاءت مبادرة جديدة بإضافة مرحلة عمرية للمستفيدين من فعاليات المهرجان، وهي حملة «اقرأ لطفلك»، من أجل إضافة بعد تربوي جديد للمهرجان، وذلك بالإعلان عن حملة قومية تدعو الآباء والأمهات والكبار بوجه عام ليقرأوا لصغارهم منذ السنوات الأولى من عمرهم ويساعدوهم على أن يخطوا خطواتهم الأولى في عالم القراءة.

وفي عام 2007 نجح «مهرجان القراءة للجميع» في إحداث طفرة في اهتمام المجتمع بالقراءة، حيث تطور مهرجان القراءة للجميع من مجرد تظاهرة ثقافية، تقام سنويا في الفترة من يونيو (حزيران) إلى سبتمبر (أيلول) من كل عام، ليصبح حملة ثقافية قومية تهدف إلى نشر الثقافة والمعرفة في ربوع مصر كافة، وتمتد على مدار العام، تحت عنوان «الحملة القومية للقراءة للجميع»، وقد حملت شعار «القراءة للحياة»، بمشاركة العديد من الجهات والوزارات، منها جمعية الرعاية المتكاملة، التي كانت ترأس مجلس إدارتها سوزان مبارك، ووزارات الثقافة، والإعلام، والتربية والتعليم، والتنمية المحلية، والمجلس الأعلى للشباب والرياضة، تحت إشراف الراحل الدكتور سمير سرحان، الذي ترأس الهيئة المصرية العامة للكتاب في الفترة من 1985 - 2004، وهي الفترة التي شهدت ولادة هذا المشروع واشتداد عوده، وبذلك أعاد المهرجان الحياة إلى المئات من المكتبات المدرسية ومكتبات قصور الثقافة ومراكز الشباب وغيرها وحفزها على العمل بكامل طاقتها خلال العطلة الصيفية، وقد أدى ذلك إلى تجديد بعض المكتبات جزئيا أو كليا خلال فترة المهرجان، بالإضافة إلى إنشاء مكتبات جديدة في العديد من المناطق.

ولأن شعار المهرجان ارتبط بزوجة الرئيس المصري السابق، فقد بدأ يختفي شيئا فشيئا، لا سيما في الأوساط الثقافية المصرية، بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، كما اختفت صورتها وكلمتها المكررة من فوق أغلفة الإصدارات، وإن ظل شعار «مكتبة الأسرة» الذي ارتبط بها ارتباط السبب بالمسبب، باقيا ليشهد على تلك الحقبة من تاريخ مصر الثقافي. ومع ذلك لم يكن مشروع «مكتبة الأسرة» بمنأى عن الفساد الذي استشرى في مصر على مدار عقود، والذي امتد ليشمل القطاعات كافة ابتداء من الثقافة مرورا بالصحة والتعليم ووصولا إلى السياسة، فقبل ثورة 25 يناير كان النشر ضمن مشروع مكتبة الأسرة يخضع للمحسوبيات والمجاملات والتربيطات ومدى الحظوة التي يحظى بها الناشر أو المؤلف من صانعي القرار.

بعد ثورة 25 يناير توقفت الحملة القومية للقراءة للجميع، وبالتبعية مشروع مكتبة الأسرة، إلى أن بعث المشروع من مرقده، برؤية جديدة ونهج جديد غير ما كان متبعا منذ بدايته. ففي أغسطس (آب) عام 2011، تم اختيار الأديب إبراهيم أصلان رئيسا لمشروع مكتبة الأسرة، وأخذ المثقفون والقراء ينتظرون باكورة أعمال هذا المشروع بعد ثورة يناير. وكان أول ما فعله أصلان هو تشكيل لجنة عليا للمشروع مكونة من ثمانية أعضاء من الكتاب والنقاد والمفكرين، من غير العاملين بالهيئة، إلا أن المنية وافته في 7 يناير 2012 قبل أن يجني ثمار بذرته الأولى، حيث عرضت باكورة إصدارات مكتبة الأسرة بعد الثورة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الثالثة والأربعين في 22 يناير الماضي. يبدي الدكتور إيهاب عبد السلام، مدير دار «الفاروق» للاستثمارات الثقافية وأحد المثقفين المصريين، رأيه كناشر في مشروع مكتبة الأسرة، قائلا «اعتمد نجاحه وفشله بشكل كبير على الأفراد الذين يديرون الهيئة العامة للكتاب، الراعي الأول للمشروع والناشر له أيضا»، ويأخذ عبد السلام على المشروع أن «اختيارات الكتب اعتمدت على العلاقات الشخصية والمجاملات والتربيطات وأشياء كثيرة مشبوهة». وعن رأيه كأحد المثقفين المصريين في هذا المشروع، قال عبد السلام «لا ننكر أن مكتبة الأسرة حتى في إطار ذلك السوء أثرت المكتبة المصرية بإصدارات جيدة، لكن ما أعيبه عليها في تلك المرحلة بداية من إنشائها منذ أوائل تسعينات القرن الماضي وحتى الآن، أنها ركزت في مجملها على الجانب الأدبي فقط، وأهملت النشر العلمي، وكان بإمكان تلك المكتبة أن تعيد تشكيل العقلية المصرية التي تعاني فعلا من أزمة في الثقافة نتج عنها سلوك مترد في جميع الهيئات والمؤسسات».

ويقول مدير مكتبة الأسرة بجامعة القاهرة محمد عبد العليم، والابتسامة تعلو وجهه بعد عودة النشر في مكتبة الأسرة مرة أخرى بعد الثورة «ابننا عاد إلينا»، موضحا أن مشروع مكتبة الأسرة «عاد بثوب جديد وفكر جديد ومنهج جديد»، مشيرا إلى صدور 14 عنوانا حتى الآن، ما بين الثقافة والسياسة والفن وغيرها من مجالات المعرفة، لافتا إلى أن النشر في مكتبة الأسرة كان يخضع للمحسوبيات والمجاملات، ولذلك «لو ذهبت إلى المخازن فستجد الكتب متراكمة بعضها فوق بعض، نظرا للمجاملات التي كانت تخضع لها عملية النشر». وبين عبد العليم أن أسعار الكتب لم تتغير عن السابق، بل إن هناك مزايا لم تكن في السابق، فـ«الطباعة تحسنت والإخراج الفني تحسن ونوع الورق أصبح أفضل، والألوان وإن كانت محدودة لكنها زاهية»، والآن توجد عناوين لم يكن مسموحا بها من قبل مثل «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي» و«ثقافة الاحتجاج من الصمت إلى العصيان» و«إغراء السلطة المطلقة» و«الإسلام وعلمانية الدولة»، وغيرها من العناوين التي كانت تخضع لرقابة شديدة قبل إصدارها وإن صدرت بطريقة أو بأخرى حوصرت على الفور.

ويقول إبراهيم الشرقاوي، وهو باحث بمجمع اللغة العربية بالقاهرة «كانت الكتب المهمة التي يتسابق طلاب العلم والباحثون على اقتنائها، وربما عجز البعض عن شرائها من دور النشر الخاصة لارتفاع أسعارها، تطبع بكميات محدودة ضمن (مكتبة الأسرة)، وربما بيعت قبل عرضها، أو وزعت على الأقارب والمعارف في ما يسمى بـ(المجاملات الثقافية)، أما الكتب الأخرى فتطبع بكميات كبيرة حتى إنك تجدها بعد مدة طويلة، ربما سنوات، على أرفف المكتبات أو تجدها متراكمة في المخازن، ويبدو أن هذا كان مقصودا لذاته».